ما بعد طوفان الأقصى المتغيرات الدولية وإلغاء وظائف المشاريع الدينية الغيبية في 23/ 02/ 2024 حسن خليل غريب

تمهيد: إلغاء وظيفة المشروع التلمودي مقدمة لإلغاء وظيفة مشروع ولاية الفقيه
-أولاً: تمهيد أيديولوجي وتاريخي منذ تأسيس نظام ولاية الفقيه حتى الآن.
-ثانياً: مشروع ولاية الفقيه يسير بالعكس من التشريعات الأممية.
-ثالثاً: المقاربة بين المشروع الغيبي الإيراني وبين المتغيرات الحديثة والراهنة على الصعيد العربي والدولي.
1-السير بالعكس من التيارات الأممية في بناء الدولة الحديثة.
2-السير بالعكس من تيارات بناء الدولة العربية المدنية الحديثة.
3-ميليشيات نظام ولاية الفقيه تسير بالعكس من مرحلة الاستثمار بالتنمية البشرية.
أ-المتغيرات الدولية باعتبار المنطقة العربية ساحة للاستثمار الاقتصادي.
بـ-الدول الغربية ومتغيرات الدور الوظيفي للكيان الصهيوني والنظام الإيراني.
جـ-النظام العربي الرسمي الخليجي، والتحولات الاستراتيجية السياسية والاقتصادية.

مشروعان إلغائيان غيبيان، المشروع التوراتي الصهيوني ومشروع ولاية الفقيه الشيعي، رسمت الإمبريالية الأميركية لهما وظائف عليهما أن يؤديانها لتنفيذ استراتيجيتها العسكرية التوسعية. وبعد إثبات فشل المشروع الأول خاصة بعد عملية طوفان الأقصى، فاجأ الغرب العالم بأنه يفتح الفرصة أمام الحلول السياسية بإعطاء الفلسطينيين دولة قابلة للحياة، وهذا يعني تغيير الوظيفة العسكرية للعدو الصهيوني التي كان مُعدَّاً لها منذ مؤتمر كامبل بانرمان في العام 1905. وإذا كانت متغيرات المواقف الغربية أصبحت بغاية من الوضوح تجاه وظيفة المشروع التلمودي الصهيوني. فإن المواقف ليست واضحة حتى الآن، تجاه وظيفة المشروع الغيبي الإيراني. وهذا الغموض يدفعنا إلى تحليل ما سوف ترسو عليه المواقف منه في المستقبل القريب.

-أولاً: تمهيد أيديولوجي وتاريخي منذ تأسيس نظام ولاية الفقيه حتى الآن:
أنجزتُ، في العام 1989، صياغة البحث عن نظرية (ولاية الفقيه) في الجزء الأول من كتابي (نحو تاريخ فكري سياسي لشيعة لبنان)، وقمت بنشره ورقياً في العام 2000. ولذلك سوف أمهد لهذا المقال ببعض نتائج البحث في الفصل الأول من الجزء الأول، التي أوجزها بالتالي:
(أغرقت نظرية ولاية الفقيه نفسها في إضفاء صفات على الوالي الفقيه، .. وتحميله مسؤوليات مطلقة يعجز عن حملها إمام معصوم). ولهذا فإن ما جاءت نظرية ولاية الفقيه لتتجاوزه من استحالة نظرية (الانتظار الغيبي للإمام المعصوم)، واستبدلته بجواز انتقال صلاحياته إلى (الولي الفقيه العادل!)، تكون بذلك قد نزلت (من الغيبية إلى أرض الواقع، فإذا بها تعمل على الارتفاع بالواقع إلى مستوى الغيبية المستحيلة).
بعد أن بدأت الثورة الشعبية في إيران ضد نظام الشاه، وانخراط رجال الدين الشيعة فيها. كانت هناك فرصة استثمرها الخميني لكي يشرِّع فيها استلام رجال الدين الشيعة للسلطة السياسية. وكان ذلك معسور الحصول عليه بسبب مخالفتها لنظرية الشيعة الإثني عشرية، والتي تحرِّم انخراط الشيعة في أية سلطة سياسية قبل ظهور (الإمام المهدي المنتظر).
وبسبب هذا الهدف، استفاد الخميني من مصدرين، وهما:
-الأول: تجربة الدولة الصفوية التي تعود إلى العام 1501، التي أجازت أن يتسلم فيها السلطة السياسية شيعي، ويتولى فيها فقيه شيعي السلطة الدينية.
-والثاني: إقرار حزب الدعوة في العراق في العام 1958، بالتجربة الصفوية.
لذلك أقدم الخميني على الدعوة لنظرية ولاية الفقيه التي فصَّلها في كتابه (الحكومة الإسلامية).
بزعمه أنه يناصر المظلومين أينما وجدوا في هذا العالم، عمل نظام الملالي في إيران، على إخفاء أطماعه التوسعية السياسية والجغرافية، تحت ستار مشروع ديني مذهبي غيبي، فاعتمد نظرية ولاية الفقيه لحكم نظام (الجمهورية الإسلامية في إيران)، التي تأسست في العام 1979. ووجد تأييداً واسعاً لدعوته، ليس بين صفوف الشيعة فحسب، بل بين حركات الإسلامي السياسي السنية أيضاً. ويعود التقاؤهما إلى عدائهما المشترك لقيام الدولة العلمانية لأنها كما يزعمون (لا تحكم بشرع الله، وعندهما معاً أنه لا حاكم غير الله). ولذلك عملا من أجل إسقاط ما يزعمان أنها (الدول الكافرة)، التي بإسقاطها تنفتح الأبواب أمام كل منهما لتنفيذ مشروعه الخاص حسب رؤيته لشكل الخلافة الإسلامية.
ولهذا، وتسويقاً لمشروعه السياسي في تصديره إلى خارج إيران تحت ستار (مظلومية الشيعة) تاريخياً، اعتمد أسلوب بناء (أحصنة طروادة) الخشبية للتسلل إلى البيئات الاجتماعية العربية الحاضنة للجماهير الطائفية الشيعية. وقد أحسن النظام استغلال تلك الجماهير، خاصة التي يشدُّها الدخول إلى الجنَّة بشفاعة آل بيت الرسول كوسيلة واحدة ووحيدة.
ولو ارتضى النظام أن يطبِّق معتقداته على الأرض الإيرانية لما واجه الاعتراض عليه، وذلك من أبواب حق الشعوب في السيادة على أراضيها. ولكن هذا الحق تجاوز حدوده عندما راح يصدر عقيدته إلى الشعوب الأخرى متدخلاً بشؤونها الداخلية بواسطة تلك (الأحصنة)، التي تحوَّلت لاحقاً إلى ميليشيات عسكرية، وصلت في بعض مراحلها الراهنة إلى دويلات داخل الدولة.
ولذلك، تاريخياً بنى النظام الإيراني استراتيجيته التوسعية على تلك الوسائل منذ وصوله إلى حكم إيران في العام 1979. واستخدمها جواز مرور للتدخل بشؤون الدول (هو يأمر، وهي تنفِّذ، لأن للولي الفقيه في إيران سلطة الأمر والنهي) كما تنص عليها فتاوى الخميني، وهو ما يتناقض مع التشريعات الأممية ودساتير الدول. ولكي يغطي على تدخله لاحقاً، وخاصة في مرحلة (طوفان الأقصى)، التي يشتبك فيها بواسطة ميليشياته مع حليفه الأميركي للحصول على حصته من خرائط ترسيم مستقبل منطقة الشرق الأوسط، وبنوع من الخداع راح ينأى بنفسه عن دور الآمر تارة، ويفخر على بأنه مسيطر على الدول حيثما أسس ميليشيا تابعة لأوامره تارة أخرى. وبين النفي والاعتراف أدرك العالم أن النظام الإيراني من دون ريب ضالع بالتدخل في شؤون الدول الأخرى بشكل فعلي ولم يعد نفيه ينطلي على أحد.

-ثانياً: مشروع ولاية الفقيه يسير بالعكس من التشريعات الأممية:
مثله كمثل المشاريع الاستعمارية، أو الدينية المتعصبة، وقف نظام ولاية الفقيه ضد التشريعات الأممية التي تعترف بـ(حق الدول بتقرير مصيرها). وأجاز لنفسه حرية التدخل بشؤون الدول الأخرى تحت مبدأ (مساعدة المظلومين في العالم)، وترجمة لتلك (الحرية) وضع خطة استراتيجية لـ(تصدير ثورته) إلى خارج إيران.
بدأ بتنفيذ مشروعه بعد وصول الخميني إلى الحكم في العام 1979، وانطلق في محاولته الأولى من العراق بتحريض الشيعة العراقيين للثورة في الداخل والقيام بعمليات تخريب واغتيالات لبعض المسؤولين العراقيين من جهة، وبدأ أولى اعتداءاته العسكرية على العراق في شهر أيلول من العام 1980، من جهة أخرى. وبسبب تلك الاعتداءات أشتعلت حرب بين البلدين دامت ثماني سنوات انتهت بتدمير للدولتين الجارتين، وسقوط الملايين من الضحايا. واستمر في رفضه قرارات مجلس الأمن الداعية إلى وقف إطلاق النار، وامتناعه عن الالتزام بها، إلى أن اضطُرَّ لـ(تجرُّع السُم) في نهاية الأمر والقبول بوقف إطلاق النار في 8/ 8/ 1988.
لم تحدَّ تجربة الحرب الفاشلة من طموحاته، بل كمن النظام الإيراني، بعد فشل عدوانه العسكري، إلى أن حانت له الفرصة ثانية في العدوان الأميركي على العراق واحتلاله في العام 2003. حينذاك انتهز الفرصة، وقام بمشاركة (الشيطان الأكبر) بالاحتلال وأحياناً بإدارة الاحتلال، وكانت فرصته الذهبية عندما ألحقت المقاومة الوطنية العراقية الهزيمة العسكرية بجيوش الاحتلال وإرغامها على الانسحاب من العراق في العام 2011. وهكذا، وبالاتفاق مع (الشيطان الأكبر) آلت إدارة (العملية السياسية) التي شكَّلها الاحتلال الأميركي للنظام بكل تفاصيلها. وهنا، وتوظيفاً لبعض الحقائق التاريخية في التحليل، نعيد التذكير ببعضها.
-الحقيقة الأولى: عند الإعداد للحرب العدوانية على العراق، ردَّاً على سؤال: (من أين ستقوم أميركا بتمويل الحرب؟)، أجاب دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأميركي: (سنقوم بتمويلها من ثروات العراق).
-الحقيقة الثانية: قال دونالد ترامب، الرئيس الأميركي الأسبق، (إن النظام الإيراني استولى على ثروات العراق ولم يدفع دولاراً واحداً، ولم يدفع قطرة دم واحدة، بينما أميركا دفعت المال والدم وخرجت بصفر من تلك الثروات).
حقائق مُرَّة عانت منها أميركا، وحقائق أثلجت صدور الملالي في إيران، فقد أتتهم الفرصة الذهبية، وراحوا يموِّلون مشروعهم الغيبي من ثروات العراق التي من دونها ما كانت لهم القدرة على (احتلال أربع عواصم عربية)، توَّجوها بتسخير القضية الفلسطينية في عملية (طوفان الأقصى) بوسائل إعلامية شعبوية من جهة، واستفاد (الملاك الإيراني) من (الشيطان الأكبر الأميركي) أيما استفادة من جهة أخرى.
لم يكن استغلال الشيطان الأكبر الوجه الشاذ الأول في تحالفات النظام الإيراني، بل بالإضافة إلى استغلال (أحصنة طروادة العرب)، بل راح يستغل المحور الدولي الشرقي -روسيا والصين- لحاجتهم المرحلية إلى خدماته أيضاً.
-ثالثاً: المقاربة بين المشروع الغيبي الإيراني وبين المتغيرات الحديثة والراهنة على الصعيد العربي والدولي.
كانت مقدمة المقال، جزءاً ضرورياً، يساعد كثيراً على استشراف مستقبل نظام ولاية الفقيه، في ظل ما يحدث من متغيرات على الصعيد الدولي والعربي والإقليمي. وهو ما سنقوم بتفصيله في المقاطع التالية:
الآن، وفي اللحظة الراهنة، تتناقض أهداف نظام الملالي في إيران مع الكثير من التشريعات الأممية من جهة، وتقف بالضد من المتغيرات الدولية التي فرضتها عملية طوفان الأقصى من جهة أخرى. تلك المواقف المتناقضة والمتغيرات سوف تشكل المحور الاستراتيجي الدولي لإعادة بناء المنطقة العربية على أسس تستجيب لاستراتيجية التنمية الاقتصادية التي لا يمكن تنفيذها من دون إطفاء محركات التوتر والاضطراب الأمني في المنطقة بشكل شامل وكامل.
ما هي عوامل التناقض التي لا يزال يحملها مشروع ولاية الفقيه، والتي عليه أن يلتزم بها، والتي بدون التزامه سيقف في مواجهة دول العالم قاطبة، ودول الإقليم، والأقطار العربية كافة؟

1-السير بالعكس من التيارات الأممية في بناء الدولة الحديثة.
بعد طوفان الأقصى، وردات الفعل الوحشية للعدو الصهيوني، وبعد دعمه منذ أكثر من قرن من الزمن، ضاقت الدول الغربية ذرعاً من غيبية مشروعه التوراتي، أولاً لأنه يسير عكس حركة التاريخ المعاصر في بناء الدول المدنية الحديثة؛ وثانياً لأنه يستغل دول العالم من أجل مشروع لا يصب في غير مصلحة اليهود. مشروع يعمل على تسخير البشرية لخدمة (شعب الله المختار).
علماً أن الدول الغربية ذات الأكثرية المسيحية وضعت المؤسسات الدينية المسيحية بعيداً عن العمل السياسي. ومن وضع حدوداً للديانة المسيحية ومنع مؤسساتها من التدخل في شؤون الدولة السياسية، فهل يمكنه أن يتحمَّل أثقال مشروع يهودي غيبي؟ واستطراداً، ولأن دول العالم قاطبة، وضعت حدوداً لمؤسساتها الدينية، وحصرت صلاحياتها في الشؤون الروحية، فهل يمكنها أن تتحمَّل أثقال مشروع ولاية الفقيه الغيبي؟

2-السير بالعكس من تيارات بناء الدولة العربية المدنية الحديثة.
وإن كانت الكثير من الأنظمة الرسمية، وأكثرها انتشاراً في الوطن العربي، لا تزال تسير على مناهج الديكتاتورية. وإن الجماهير الشعبية ضاقت ذرعاً بتلك الديكتاتوريات، خاصة بعد انتشار مفاهيم الديموقراطية والعدالة الاجتماعية، وراحت تطالب بإسقاطها، فهي لن تجد الحل عند الرؤية الفقهية لنظام ولاية الفقيه.
ولو تساءلنا عن موقع الديموقراطية في مفهوم نظرية ولاية الفقيه لوجدنا أنها تتناقض تماماً مع مفاهيم الديموقراطية الشعبية القائمة على حكم الشعب للشعب. وهي تختصر البنى المعرفية والسياسية بأيدي فرد واحد أحد، هو المرشد الأعلى لـ(الثورة الإسلامية في إيران).
يستند الخميني، مؤسس نظرية الولاية المعاصرة، إلى الآية القرآنية:( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلْأَمْرِ مِنكُمْ). معتبراً أن من خالف أولي الأمر فقد خالف الرسول، ومن خالف الرسول فكأنه خالف الله. ولأن (الإمام المهدي المنتظر) حصراً هو ولي الأمر عند الشيعة الإثني عشرية، ابتكر الخميني نظرية ولاية الفقيه باعتباره نائباً عنه في مرحلة غيبته، ونقل صلاحيات (الإمام المنتظر) إلى النائب الفقيه، الذي أطلق عليه الدستور الإيراني لقب (المرشد الأعلى)، واعتبره الآمر الناهي، وجميع من غيره يتلقون الأوامر منه وينفذونها. والمرشد، في مثل تلك الحالة، تحوَّل إلى ولي الأمر الحاكم باسم الله، ومن يخالفه كأنه خالف أوامر الله. وبهذا طلَّق نظام ولاية الفقيه كل ما أجمع عليه العالم من تشريعات مدنية وديموقراطية.
وفي النتيجة، لو ارتضى النظام الإيراني أن يطبق فقهه في إيران فقط، فله الحق في ذلك، وعلى الآخرين، من شتى شعوب العالم ودوله، أن يحترموا حرية اختياره والامتناع عن التدخل في شؤون الدولة الإيرانية. ولكن تبدأ الإشكالية عندما يعمل، بواسطة أتباعه في دول العالم الأخرى، وخاصة في الدول العربية، على تصدير ما يزعم أنها ثورة إسلامية. وهنا، زعم نظام ولاية الفقيه في إيران، أن العراق وسورية ولبنان واليمن، ولايات تابعة له، وقام بتسليح ميليشياته لتكون بديلاً عن الدولة الأم وتفرض فقهها ودويلتها بقوة السلاح.
وبالنتيجة فإن (أحصنة طروادة) -أتباع إيران- سوف تحول دون وحدة الدول العربية التي هيمنت على مؤسساتها، لتحل محل الدولة، وستبقى عامل توتر واحتراب أهلي. ولأن هذه المظاهر وقائع حقيقة يمكن مراقبتها بوضوح في الدول التي يتفاخر النظام الإيراني بالسيطرة عليها، تؤكد أن الإصرار على استمرارها، يتناقض تماماً مع الاستراتيجية الدولية في بناء شرق أوسط خالٍ من عوامل التوتر والحروب، وتشكل ضماناً للرساميل بالاستثمار الاقتصادي. ولأن (أحصنة طروادة الإيرانية) تشكل عامل التوتر الأساسية في بنى بعض الدول العربية، ستبقى في مواجهة حادة ليس مع المكونات الاجتماعية في بلدانها فحسب، بل ستكون في مواجهة مع دول العالم العالم بأكمله.

3-ميليشيات نظام ولاية الفقيه تسير بالعكس من مرحلة الاستثمار بالتنمية البشرية:
كثيرة هي المتغيرات الدولية والإقليمية والعربية الواعدة بالقطع مع مراحل الحروب والتوتر، التي سادت المنطقة العربية بشكل خاص، بينما نظام ولاية الفقيه يحتفظ لنفسه الحق بالسير بالعكس من المتغيرات التالية:
أ-المتغيرات الدولية باعتبار المنطقة العربية ساحة للاستثمار الاقتصادي:
تُظهر الأحداث المتلاحقة على ساحة الوطن العربي أن اللوثة التي أصابت مخيلات قادة الولايات المتحدة الأميركية في بناء (قرن أميركي جديد)، قد وصلت إلى طريق مسدود بعد هزيمة قواته التي احتلت العراق في العام 2003. كما وصلت إلى طريق مسدود بعد فشل مشروع تفتيت الوطن العربي إلى دويلات طائفية في العام 2011. وبين هذا الفشل وذاك، خسرت أميركا أصدقاءها من الأنظمة الرسمية العربية. وفي المقابل استفاد نظام ولاية الفقيه الشيء الكثير من صداقته لأميركا. بينما خسرت أميركا الشيء الكثير. ولم يبق لها شيء سوى المراهنة على بقاء (إسرائيل)، ولكن، وبعد عملية طوفان الأقصى وتأثيراتها البالغة على الكيان الصهيوني، تأكَّدت أميركا أن وظيفته العسكرية آخذة بالتلاشي، خاصة بعد أن أخذت الصين وروسيا تشقان الطريق نحو المنطقة العربية على متن قطار التنمية الاقتصادية.
وإذا كانت أميركا تدرك أهمية التراجع عن استراتيجيتها التي تستند إلى استخدام وسائل (الصدمة والترويع العسكرية)، والإقلاع عن تفتيت وحدة الدول واستقلالها، كضمان للاستقرار الأمني كشرط لاستثمار الرساميل، فإن نظام ولاية الفقيه لا يستطيع الاستمرار في الحياة من دون تفتيت وحدة الدول بواسطة ميليشياتها لأنها تستثمر انتشارها بالتدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدول في العراق وسورية ولبنان واليمن. ولذلك يعاني نظام الملالي في هذه المرحلة من أكثر من مأزق. فإنه لا يستطيع أن يقف في مواجهة حلفائه في الظاهر، الصين وروسيا؛ وبالإضافة إلى ذلك، فكيف به لو فُرضت عليه المواجهة مع حلفائه في الباطن، أميركا والغرب؟

بـ-الدول الغربية ومتغيرات الدور الوظيفي للكيان الصهيوني والنظام الإيراني.
منذ تأسيسه، اعتبرت الدول الغربية، أن الكيان الصهيوني يشكل القاعدة العسكرية الأكثر قوة وتطوراً في المنطقة العربية، ويقوم بالدور المنوط به في حماية مصالحها الاقتصادية، تهدد وتتوعَّد به من يهدد تلك المصالح. ولأن تلك المصالح كانت مضمونة باستراتيجية التخويف، اعتبر الغرب أن الكيان المذكور يؤدي وظيفته بشكل أمثل.
واستمرَّ الحال حتى بداية مرحلة الضغوطات على أميركا نتيجة أخطائها الاستراتيجة التي ارتكبتها، ومن أهمها: مغامرتها العسكرية في العراق من جهة، وتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد من جهة أخرى. ونتيجة لتلك الأخطاء، دخلت القوتان الروسية بداية، والصينية لاحقاً، مستفيدتين من التراجع الأميركي، وظهرت بوادر جدية، منذ العام 2015، لإعادة تأسيس نظام دولي جديد يحكم العالم بأكثر من قطبية دولية واحدة. وباستثناء التدخل الروسي عسكرياً لمنع سقوط سورية قاعدتها الشرق أوسطية الوحيدة، كان دخول الدول الشرقية إلى الشرق الأوسط عبر بوابات التنمية الاقتصادية، والتي سيكون بناء نظام شرق أوسطي خالِ من النزاعات العسكرية. وهذا ما لقي قبولاً في النظام العربي الرسمي. وجاءت عملية طوفان الأقصى بزخمها العسكري غير المتكافئ مع إمكانيات الكيان الصهيوني، بصمود المقاتلين فيها، لكي تثبت للدول الغربية قاطبة أن الاستراتيجة العسكرية لن تصل بتلك الدول إلى مكان أكثر من استمرار بؤر التوتر التي تتناقض مع استراتيجية الاستثمارات الاقتصادية.
لقد شكَّلت عملية (طوفان الأقصى)، البرهان الأكثر وضوحاً في إقلاع الغرب عن اعتبار وظيفة الكيان الصهيوني، كقاعدة عسكرية متقدمة ومتفوقة، وظيفة صالحة لما بعد السابع من أكتوبر من العام 2023. وتلك القناعة قلبت موازين الاستراتيجية الغربية رأساً على عقب. حينذاك ارتفعت حظوظ الحلول السياسية على حساب استراتيجية التوسع الجغرافي للكيان الصهيوني.
وعلى الرغم من التناقض بوجهات النظر الحادة بين الدول الغربية، وفي المقدمة منها أميركا، وبين حكومة اليمين المتطرف الصهيونية في (إسرائيل) التي تتواصل في هذه اللحظة، نعتقد أن العودة إلى الوراء ليست ممكنة؛ بل إن إعادة بناء شرق أوسط جديد، وفي القلب منه المنطقة العربية، على أسس انتزاع عوامل التوتر والاحتراب، سوف يكون الحل الاستراتيجي الأمثل في المستقبل.
وهنا، وإذا كان الغرب، والشرق معه، توصَّل إلى اعتبار الكيان الصهيوني باستراتيجيته العنصرية والدينية الغيبية عاملاً يعيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، فهل سوف يتسامح -على المدى السريع والمتوسط- مع المشروع العنصري المذهبي الغيبي لنظام ولاية الفقيه في إيران، خاصة أنه يعمل على تفتيت وحدة الدول العربية التي يتسلل إليها عبر وسائطه الميليشياوية؟
كانت أميركا، في ظروف مكانية وزمانية محدودة، بحاجة إلى دولة إقليمية -تحديداً -تنطبق مواصفاتها الأيديولوجية وأهدافها السياسية على مواصفات المشاريع الأميركية الاستراتيجية. ولأن استراتيجية بناء (قرن أميركي جديد)، في مرحلة استفرادها بحكم العالم بقطبية أميركية واحدة، محددة بمخططين رئيسيين:
-المخطط الأول: احتلال العراق لأنه يشكل مركز محور إذا سقط العراق يتهاوى المحور بكامله.
-المخطط الثاني: تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد (تفتيت المنطقة العربية إلى دويلات طائفية).
ولم يتأخر الأميركيون باختيار النظام الرسمي الإقليمي الذي تنطبق عليه مواصفات المخططَيْن معاً. فوقع الاختيار على نظام ولاية الفقيه، فهو أيديولوجياً -بمذهبيته الدينية- طامح لاختراق النسيج الاجتماعي الطائفي للمجتمع العربي، ومستعد لتأسيس دويلات طائفية أينما كان من جهة، ومن جهة أخرى مستعد بل من أهم أهدافه أن يُسقط النظام الوطني في العراق.
كانت هي تلك الظروف المكانية والزمانية، التي خططت فيه الإدارة الأميركية لمشاركة النظام الإيراني فيهما معاً. ولكن بعد فشل المخططين معاً، وبعد عملية (طوفان الأقصى) قررت أميركا، بموافقة الدول الغربية، الانتقال إلى اعتماد الحلول السياسية في المنطقة. ولذلك انتفت الحاجة الأميركية للنظام الإيراني، لا بل أصبح موقع النظام يتناقض تماماً مع الاستراتيجية الجديدة.

جـ-النظام العربي الرسمي الخليجي، والتحولات الاستراتيجية السياسية والاقتصادية.
قد يتساءل القارئ عن سبب حصر التحولات في النظام الرسمي الخليجي؟ نقول: إن الثرورة التي يتسابق عليها الغرب والشرق معاً تكاد تكون محصورة هناك. ونحن نعوِّل على تلك المتغيرات، لأن من يمتلك الثروة، في عصر العولمة الرأسمالية، ويحسن توظيفها، يفرض نفسه على القرار الدولي الذي يرسم معالم الاتجاهات السياسية والعسكرية والاقتصادية للمنطقة العربية.
منذ العام 2015 تقريباً، وعلى الساحة الخليجية، وبشكل خاص في المملكة العربية السعودية، بدأت تظهر متغيرات على الصعيد السياسي والاقتصادي تدل على أن عصراً جديداً يؤشِّر على بدايات انفتاح تتجاوز الوظائف التقليدية للمملكة.
-أما على الصعيد السياسي، وبعد أن كانت وظيفة الدولة تنحصر في دائرة الالتحاق والتبعية للولايات المتحدة الأميركية، خاصة قبل احتلال العراق وبعده بقليل. فقد ظهرت حالة من التململ السعودي من مواقفها والمواجهة معها، خاصة بعدما تبيَّنت خطورة المشروع الإيراني على الأمن الوطني السعودي، والذي بدا واضحاً بعد هزيمة أميركا في العراق وتسليم النظام الإيراني إدارة العملية السياسية فيه.
-وأما عن المتغيرات في الاستراتيجية الاقتصادية، وباختصار شديد وضعت استراتيجة إقتصادية تستند إلى تنويع مصادر الدخل الوطني، لتدعيم الإنتاج البترولي الريعي، وهي لن تكون بعيدة عن الأبعاد الاقتصادية على المستوى القومي.
ونتيجة لتلك المتغيرات شدَّت السعودية أنظار الدول الكبرى، روسيا والصين بالإضافة إلى الدول الأوروبية، فواجهت أميركا أكثر من مأزق كان عليها أن تجد لها حلولاً، خاصة وأن الافتراق السعودي – الأميركي كان يتعمَّق باستمرار. وظهر أكثر المآزق الأميركية حدَّة في مرحلة ما بعد طوفان الأقصى. وتعمَّق هذا المآزق بعد وقوف أميركا الكامل إلى جانب حماية الكيان الصهيوني إلى أن تأكد عجزه عن استعادة هيبته بقوة السلاح الأميركي والأوروبي.
منذ تلك اللحظة، ولأن الدخول الصيني والروسي جاء على خلفية الاتفاقيات الاقتصادية التي لن تقلع في أجواء التوتر الأمني والعسكري، خاصة ما يقف وراءه الكيان الصهيوني من جهة، ونظام ولاية الفقيه من جهة أخرى، تكاثرت المآزق التي لم تجد إدارة بايدن مخرجاً منها سوى بالانصياع إلى إعلان حل الدولتين للقضية الفلسطينية، وهو المشروع الذي طرحته المملكة في قمة بيروت في العام 2002، كمخرج للوصول إلى تسوية للصراع التاريخي، لأنه من دون ذلك، ستصبح المصالح الأميركية والأوروبية في مهب الريح العربي.

د-متغيرات الموقف الأميركي والغربي، هل هي صحوة ضمير، أم صحوة مصالح؟
تراكمت الأسباب التي أرغمت الغرب على تغيير مساراته السابقة التي حصر عوامل قوته بحليفين (إسرائيلي ظاهر) يعود إلى ثلاثة أرباع القرن تقريباً، و(إيراني باطن) يعود إلى خمسة وأربعين عاماً تقريباً. واستخدمهما (فزَّاعة) يبتزُّ بهما العالم العربي، ويفرض على النظام الرسمي بدعة (الحماية بالإيجار).
ذلك الواقع، وبالعكس مما خطط له الغرب، تفاجأ بمواقف جديدة للنظام الخليجي، الذي خشي من الدور الإيراني بعد أن فتحت أميركا له أبواب العراق، وهذا يعني وضع الأمن القومي العربي تحت رحمة ذلك النظام، مما دفع السعودية للوقوف في مواجهة مع الغرب لأول مرة في تاريخ علاقاتهما. واستطراداً خسر الغرب ثقة أصدقائه العرب.
ومن أجل استعادة صداقاته، وتحت أثقال عملية (طوفان الأقصى)، وبعد عجز العدو الصهيوني عن مواجهة المتغير الفلسطيني، لجأ الغرب، وفي الطليعة منه أميركا، إلى الانتقال من عسكرة وسائله، بتوظيف قوة الردع العسكري الصهيوني، وسياسة التفتيت بتوظيف أيديولوجيا نظام ولاية الفقيه، لجأ إلى التماس الحلول السياسية للقضية الفلسطينية، وذلك بالاعتراف بحق الفلسطينيين بدولة قابلة للحياة. هذا ولا تزال الإدارة الأميركية تراهن على المفاوضات مع النظام الإيراني لتبادل المصالح في بعض الملفات العربية الساخنة، وكأنها بتلك المراهنة توحي بأن نظام ولاية الفقيه ليس عاملاً من عوامل التفجير الأساسية في المنطقة العربية. وإذا افترضنا أن مراهانتها مرحلية يجب أن تتغير تطميناً لدول الخليج العربي على الأقل، والعكس من ذلك يعني أن الإدارة الأميركية لم تدرك حتى الآن أنها إذا لم ترغم النظام الإيراني على تغيير استراتيجيته التوسعية، فكأنها لا تريد أن تنزع عوامل التفجير؛ وهذا يعود بالغرب وبالمنطقة العربية إلى نقطة الصفر.
بعد (طوفان الأقصى) أسهمت الوحشية الصهيونية غير المحدودة بحق المدنيين الفلسطينيين في إثارة الشارع الغربي الذي وخزه الضمير بشكل دامي لأنه لم يستطع أن يتحمل مشاهد القتل، والتهجير، وبقر البطون، وقتل الأطفال. فملأ الشوارع لأشهر طويلة، وهو السبب الأساسي الذي هزَّ الطبقات الحاكمة في دول الغرب فخافت على مستقبلها السياسي، فراحت تتلون بمواقفها السياسية تدريجياً إلى أن انتقلت إلى مستوى نقد الكيان الصهيوني وتهديده لاحقاً إذا لم تتوقف آلته العسكرية عن الاستمرار في القتل والتدمير والتجويع.
لم تعبِّر المتغيرات في المواقف عن صحوة ضمير عند الأنظمة السياسية في الغرب، لأن النظام الرأسمالي الذي يخدم مصالح طبقات محدودة في المجتمع يحتفظ بضميره في جيوبه، بل كانت صحوة مصلحية كردة فعل استجابة لضمير الجماهير الغربية المليونية.
وأياً تكن الأسباب، فإن وقائع عملية (طوفان الأقصى)، بما رافقها وبما مهَّد لما قبلها ولما سيأتي بعدها، أتاحت الفرصة أمام العرب، لاستثمار نتائجها السياسية في بناء منطقة عربية تهتم بتطوير البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بعيداً عن عوامل التفجير التاريخية التي تعود إلى عشرات السنين إلى الوراء. طبعاً يشكل تطوير تلك البنى مدخلاً رئيسياً أساسياً لمنع تسسل الحركات الدينية السياسية، وفي المقدمة منها مشروع ولاية الفقيه الغيبي، إلى دائرة الشرائح الفقيرة في المجتمع العربي، خاصة أنه يتاجر بآلامهم ودمائهم تحت راية إعلام كاذب يزعم أنه يقف إلى جانب (المظلومين في العالم)، ولكنه بالعكس من مزاعمه، فإن الفقر يزداد عمقاً في أوساط المجتمعات التي أعلن أنها أصبحت جزءاً من (إمبراطورية إيران).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *