عندما نحصر بداية الأزمات العربية الراهنة انطلاقاً من احتلال العراق فلأنه جسد مع احتلال أفغانستان، بداية فعلية لمشروع نظام القطب الواحد الذي بلغ ذروته بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في العام 1991. حينها اعتبرت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن أن الظروف أصبحت مؤاتية لها لتنفيذ مشروع هيمنتها على العالم ابتداءً من العراق، فأدلى بتصريحين جاء في الأول:
” إنها حرب باسم الله وقد اختار الله الشعب الأمريكي للقيام بها”. وجاء في الثاني بعد إنجاز العمليات العسكرية لاحتلال العراق ومن على ظهر حاملة الطائرات (إبراهام لينكولن) في الأول من أيار/مارس 2003: ” لقد أمنا حماية أصدقائنا، ومن العراق سنعيد رسم خارطة المنطقة”.
مؤكداً من خلالهما على أن استراتيجيته نسخة طبق الأصل عن الأهداف التلمودية اليهودية التي توظِّف إمكانيات أحد أكبر الدول العظمى من أجل تحقيق أهدافها، ويؤكد التصريح الثاني أن احتلال العراق يشكل بداية لتنفيذ ذلك المشروع.
لكن المقاومة العراقية الباسلة كان لها قول آخر.
المقاومة العراقية شكَّلت “عقدة النجار” في وجه المشروع
لقد تمَّ احتلال العراق ليشكل نقطة الانطلاق لتنفيذ المرحلة الثانية، ولكن المقاومة العراقية دقَّت الإسفين الذي عرقل المشروع، وأرغم الجيش الأميركي على الانسحاب في العام 2011، وكان أكثر الأنظمة استفادة هو نظام ولاية الفقيه في إيران، وعلى أكثر من صعيد، سياسي وأيديولوجي واقتصادي.
انتفاخ الدور الإيراني
كان النظام الإيراني أعجز من أن يحقق هدفاً واحداً في العراق خاصة بعد فشل عدوانه عليه الذي استمر لثمان سنوات. ولأنه تجرع السم عندما وافق على وقف إطلاق النار في 8/ 8/ 1988، راح يمارس التقية، كمبدأ إيديولوجي أساسي، كابحاً جماح رغبته العارمة في بناء حكومة عالمية، انتظاراً لظروف ملائمة له. ومارس التقية أيضاً في ستر علاقاته الحقيقية مع الإدارات الأمريكية السابقة التي يسميها (الشيطان الأكبر) كغطاء خادع لعلاقاته المستورة معها، بحيث ظهرت على حقيقتها بعد احتلال العراق. فإذا بالتنسيق بينهما قبل احتلال العراق وبعده كان يمثل الموقف الحقيقي له. وازدادت الحقيقة بالظهور بعد وراثته الاحتلال في سنة 2011، إثر استلام العراق باتفاقية واضحة وقعها معه باراك أوباما، الرئيس الأميركي الأسبق. وظلَّ هذا التنسيق قائماً إلى الوقت الذي بدأ فيه مشروع ما يُسمى بـ(الشرق الأوسط الجديد) يواجه صعوبات جادة في التنفيذ.
وإذا كان الخميني قد وضع احتمال تأخير (ظهور الإمام المهدي المنتظر) 1200 عاماً أخرى، أو توقَّع عدم ظهوره إلى أبد الدهر، فإن الوصول إلى حكم العراق، بعد الانسحاب الأميركي، قد أعاد إحياء حلم نظام ولاية الفقيه. ساعتئذٍ تدفقت أوراق القوة بين أيدي النظام الإيراني، ومنها وفي المقدمة فتح خزائن العراق وموارده لتصب عائداتها في جيوب ملالي النظام، الأمر
الذي امتلكوا فيه ثروات هائلة راحوا يستخدمون فوائضها في إعادة إحياء حلم الظهور. فصرفوا منها ببذخ لافت، وسخَّروها لمحاولة فتح بوابات الحاضنات الشعبية، وأبواب العواصم العربية، والقوى السياسية. وهذا ما دفع بالملالي إلى العمل على تحقيق حلم يتساوى بخطورته مع خطورة الحلم التلمودي الصهيوني.
ولكي نعبِّر عن الأمر باختصار، نشير إلى أن كل منهما هو مشروع حلم يهدف إلى بناء حكومة عالمية على شتى أنحاء الكرة الأرضية، وإلى بناء نظام ديني له صفات القدسيّة. وكلاهما مبنيان على معتقد أنهما ينفذان (أوامر إلهية). وكلاهما يعدان لمعركة بين الخير والشر في هرمجدون على أرض فلسطين، المنتصر فيها يحكم العالم.
معركة هرمجدون على أرض العراق بين محوريْ الشر
علماً أن معركة الخير والشر لا تحتاج إلى مشاريع سياسية غيبية تتخذ من الدين ستاراً لها. فأي من هذه الأخيرة لن يحقق العدالة والمساواة في العراق أو غيره، ولذلك سيكون انتصاره بداية لتأسيس حروب جديدة، وليس صراعها أكثر من تحميل البشرية أهوالاً جديدة وكوارث جديدة وآلاماً جديدة، وزيادة في الفقر والمرض، وهذا يؤدي إلى رفضها جميعاً. فثمن الصراع وتكاليفه يتم دفعها من دماء وأرواح وثروات الشعب العراقي. فمن الأهمية بمكان في هذه المرحلة بشكل خاص، أن يعي العراقيون مخاطر ذلك الصراع لكيلا يكون العراق كبش محرقة لأدوات المشروع الإيراني، لذا فالقضاء على مشروع ولاية الفقيه أقصر الطرق لتحرير العراق.
مقاومة مشروع ولاية الفقيه في العراق وانعكاساته الإيجابية على الوطن العربي
إن الاقتصاد الإيراني هو الأضعف في المنطقة، وهو أعجز من أن يواجه قوة شعب العراق الأبي. وأما السبب الذي جعل إيران تمتلك فائضاً في اقتصادها، فكان يكمن في الفرصة التي وفرتها لها إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما منذ سنة 2011. حينذاك استولت إيران على مفاصل العملية السياسية الفاسدة في العراق التي اعتمدت وسائل النهب التالية:
1 -السيطرة على مصادر النفط التي تحوَّلت إلى نوع من الخراج يصب في صناديق (الولي الفقيه) كغنائم حرب. وقامت بتأسيس عشرات الميليشيات المسلحة التي وظفتها لحماية العملية السياسية وحصرها بأيدي مجموعة من السياسيين الموالين لها من جهة، وأخرى من رجال الدين بهدف اضفاء صفة “القدسية” على العملية السياسية الفاسدة.
إذن، من عائدات سرقة ثروات العراق وشعبه الأبي، راح نظام ولاية الفقيه يوظفها في تحقيق الأهداف التالية:
لتعزيز مواقع عملائها الكبار في العراق من خلال نهب جزء منها لتكديس ثرواتهم الشخصية.
كموازنات لعشرات الميليشيات التي تحرس الوجود الإيراني.
لتمويل الحرس الثوري الإيراني كمؤسسة تحمي أمن طبقة الملالي الحاكمة.
لتمويل وتعزيز عملائه وأذرعه في سورية ولبنان وفلسطين واليمن.
ومن دون الخوض بالتفاصيل، فقد سيطر، باعتراف واضح منه، على أربع عواصم عربية نسبها إلى (النصر الإلهي)، والتي ربما عزَّزت عنده الشعور بقدرته على مواجهة أية قوة في العالم.
هزيمة مشروع ولاية الفقيه يوفر على الوطن العربي تعقيدات كثيرة
إن الاحتلال الإيراني شديد الخطورة لأنه يستند إلى مشروع إيديولوجي استيطاني تقسيمي، يسعى إلى استقطاب حواضن شعبية بعد تضليلها، ولذلك فإن وعي شعب العراق البطل هو الذي يستطيع أن يلحق به الهزيمة.
إن أهمية إخراج نظام ولاية الفقيه من التأثير في الساحة العراقية، تعني إخراجه من معادلة الصراع الدائر بين الأمة العربية وأعدائها، وهو سوف يوفِّر الكثير من التعقيدات على أزمات العرب في المرحلة الراهنة.
فإخراجه من العراق وتحريره منه، يعني تعريته من وسائل القوة المالية التي ينهبها من الساحة العراقية. ولذلك يعني إخراجه من العراق انقطاع سبل الحياة أمام مشروعه خارج إيران.
إن إضعاف الحركات والأحزاب والقوى السائرة في ركاب مشروع ولاية الفقيه، هو إضعاف للتيارات التي تستغل الدين، والدين منها براء، كغطاء سياسي لها، وتعزيز الولاء للوطن، مما سيؤدي إلى تخليص الأقطار العربية من مشاريع غيبية عابرة للأوطان، وهذا ما يمكن أن يكون بداية لوضع حلول للقضايا الوطنية المستعصية بعد أن تزول من أمامها أهم العراقيل.
في النتائج:
أصبح من الواضح أن تعقيدات الأزمة الراهنة على المستويين العربي والدولي قد ابتدأت في العراق، وأصبح من الواضح أيضاً، أن مشروع ولاية الفقيه عاد إلى الانتعاش بقوة بعد أن تسلَّم النظام الإيراني احتلال العراق. وأن هذا وفَّر له قوتين، مالية وسياسية. وإن امتلاكه لهما، أغراه بإحياء مشروعه الذي كان أشبه بالميت بعد هزيمته في عدوان الثمانينيات من القرن العشرين الذي شنّه على العراق، ولكن هذا المشروع بدأ يتجه نحو الفشل والهزيمة.
كل ذلك يدفع بنا إلى الاستنتاج أن الأزمات المعقدَّة، العربية والعراقية، سوف تؤدي إلى بزوغ ضوء بداية الحلول لتلك الأزمات في نهاية النفق. وتلك المرحلة ستبدأ بالعراق، وتنعكس نتائجها على كل الوطن العربي.
ويصح استنتاجنا: إن الأزمات المعقدة، عربياً وإقليمياً، ابتدأت في العراق وستشهد نهاية لها ابتداء منه.