الإعلام ليس مجرد وسيلة لنقل الأخبار أو تسلية الجماهير، بل هو شريان الحياة الفكرية للأمم ومحرّك رئيسي في تشكيل الوعي الجمعي. في العصر الحالي، حيث تتداخل التقنيات الرقمية مع يوميات البشر، بات الإعلام قوة عظمى تتحكم في تشكيل الأنماط الفكرية للشعوب، متوغلة في تفاصيل حياتهم، ومستوطنةً في عقولهم ومشاعرهم.
لقد أصبح الإعلام المعاصر أشبه بمرآة عاكسة تعكس أحلام الشعوب وتطلعاتها، لكنه أيضًا صانع لتلك الصور التي تعكسها. إنه ليس حياديًا كما قد يبدو، بل محمل بأجندات، وأفكار، ورؤى تُنسج بذكاء لإعادة تشكيل العقول. وسائل الإعلام لا تكتفي اليوم بنقل الواقع، بل تعيد صناعته من خلال بناء قصص تتراوح بين الواقع والخيال، مما يضع الأفراد في حالة من التشويش الدائم بين الحقيقة والافتراض.
الإعلام وصناعة المشاعر الإنسانية
تأثير الإعلام المعاصر يتجاوز حدود الفكر ليصل إلى أعماق المشاعر الإنسانية. فبأسلوبه المبتكر في تقديم القصص الإنسانية المأساوية أو الملهمة، يحرك الإعلام المشاعر الجماعية، ويحفز التفاعل العاطفي الذي يقود أحيانًا إلى تغييرات مجتمعية جذرية. مشاهد أطفال الحروب، أو قصص نجاح الأفراد، أو حتى المآسي البيئية، كلها أدوات تستثمرها وسائل الإعلام لإحداث صدمة وجدانية تُحرّك الوعي، ولكنها أحيانًا تُوظف لتحقيق أهداف سياسية أو تجارية خفية.
الإعلام المعاصر يخلق حالة من “الإدمان العاطفي” لدى الجمهور. إذ يتنقل المتلقي بين الحزن على كارثة إنسانية في جزء من العالم، والفرح لحدث رياضي في جزء آخر، مما يخلق تيارًا متواصلًا من المشاعر المتناقضة. هذا التيار لا يتيح للمتلقي فرصة للتفكير النقدي أو التحليل العميق للأحداث، بل يبقيه في حالة استهلاك دائم للمحتوى.
الإعلام كقوة موجهة للأنماط الفكرية
في عمق المشهد الإعلامي، نجد أن الإعلام المعاصر يعمل كقوة موجهة للأفكار. إنه يحدد القضايا التي يجب أن نناقشها، والزوايا التي ننظر منها إلى العالم. على سبيل المثال، يتم تسليط الضوء على قضايا معينة بطريقة تُظهرها كأولويات عالمية، بينما يتم تجاهل قضايا أخرى ربما تكون أكثر أهمية. هذه الانتقائية في التغطية تعكس تحكم جهات معينة في صياغة جدول الأعمال الفكري للشعوب.
الإعلام الغربي، على سبيل المثال، نجح في تصدير نماذج ثقافية وحياتية يُروج لها كأيقونات للنجاح والتقدم. ومع الوقت، بدأت هذه النماذج تترسخ في وعي الشعوب الأخرى، مما أدى إلى تضاؤل القيم الثقافية المحلية. الإعلام هنا لا يقوم فقط بنقل ثقافة، بل يُعيد برمجة المجتمعات لتتبنى نمطًا فكريًا وسلوكيًا معينًا يخدم أجنداته.
الإعلام المعاصر: بين التنوير والتضليل
الإعلام قوة مزدوجة التأثير؛ فهو قد يكون أداة للتنوير والتثقيف إذا استُخدم بمسؤولية، لكنه أيضًا سلاح للتضليل إذا وقع في أيدي غير أمينة. الإعلام الحر والنزيه يُمكن أن يكون منبرًا لتسليط الضوء على القضايا المهملة، وتعزيز العدالة، ورفع مستوى الوعي الثقافي والفكري. في المقابل، الإعلام الموجه يمكن أن يصبح أداة للاستبداد الفكري، يسوق الشعوب نحو أهداف محددة دون إدراكها.
لعل أبرز مثال على ذلك هو استخدام الإعلام في الحملات الدعائية أثناء الحروب أو الأزمات السياسية، حيث تُصاغ الأخبار لتخدم مصالح أطراف معينة على حساب الحقيقة. هنا يتحول الإعلام إلى أداة لإعادة صياغة الواقع وفقًا لأجندة محددة، مما يجعل الجمهور ضحية لرؤية مشوهة للعالم.
نحو إعلام إنساني مسؤول
إذا أردنا أن يكون الإعلام قوة إيجابية تخدم الشعوب، علينا أن نعمل على بناء وعي إعلامي لدى الأفراد. يجب أن يتعلم الجمهور كيفية قراءة الرسائل الإعلامية بشكل نقدي، والتمييز بين المحتوى الموضوعي والموجه. فالإعلام ليس مجرد ما يُعرض على الشاشات أو يُكتب في الصحف، بل هو مسؤولية جماعية تتطلب وعيًا عميقًا بالمخاطر والفرص التي يتيحها.
في هذا السياق، يمكن تعزيز الإعلام الإنساني المسؤول الذي يركز على القيم الإنسانية المشتركة، ويبتعد عن الانحياز والتلاعب. إعلام يرفع من شأن الفكر، ويعزز الحوار الثقافي، ويعمل كجسر بين الشعوب بدلًا من أن يكون أداة للفرقة والانقسام.
ختامًا
الإعلام المعاصر هو مرآة تعكس تطلعات الشعوب وأوجاعها، لكنه أيضًا يدٌ خفية تعيد تشكيل تلك التطلعات بما يخدم مصالح بعينها. في عالم يموج بالمعلومات، يجب أن نبقى يقظين، مدركين أن الإعلام ليس مجرد وسيلة محايدة، بل قوة فاعلة تُعيد صياغة الفكر والمشاعر. إنه مرآة يجب أن ننظر إليها بعين الناقد، لنصنع من خلالها واقعًا أكثر عدلًا وإنسانية.