حسن خليل غريب
تمهيد:
من الغريب أن دول العالم من ادناه الى أقصاه مشدودة الانتباه بشكل استثنائي إلى حدثين مترابطين، وهما ما يجري الآن في غزة فلسطين، وفي لبنان. ولكن الأكثر غرابة هو أن العالم يتجه بأنظاره إلى وضع حلول لما يجري فيهما انطلاقاً من معرفة موقف كل من الكيان الصهيوني من جهة، وموقف نظام «ولاية الفقيه» من جهة أخرى !!، في تجاوز صارخ لأهل القضية انفسهم وهم العرب وفي مقدمتهم الفلسطينيين،لا بل اضفاء الشرعية على هذا التجاوز وكأنه امر طبيعي او بديهي .
والغرابة ان الأمر وصل الى حد أنه لن يجد كل من يتحرك للمشاركة في وضع تلك الحلول حظاً في النجاح قبل الحصول على موافقة الطرفين معاً، وكأن مصير المنطقة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بموقفيهما بحيث يظن الكثيرون أنهما يلعبان دور الكومبارس على مسرح الجريمة الكبرى في العدوان الدائر على فلسطين ولبنان؛
وإذا بهما في الواقع يلعبان دور المحرك الرئيسي وكأن التفتيش عن الحل المزعوم للصراع لا يمكن الحصول عليه من دون موافقتهما معاً !!.
واذا كان بديهياً ان الكيان الصهيوني يشكل طرفاً في الصراع ، فمن الذي نصَّبَ نظام الولي الفقيه طرفاً اخر لكي يتولى الحكم والحسم في قضية الامة العربية المركزية، ويُجَيِّر اسثماره فيها لا لتحقيق مصلحة فلسطين وانما لتحقيق مصالحه البحتة من خلال مفاوضاته مع القوى العالمية ؟.
وفي ملاحظتنا ومتابعتنا للحدث الكبير كان لا بُدَّ من الوقوف في محاولة لتفسير موضوعي لما يجري في العالم انطلاقاً من هذا الواقع الذي تختصره الفرضية التالية التي تروج لها ايران : «إذا أردت أن تعرف أين وصلت حلول الصراع المزعوم الراهن عليك أن تعرف موقف ” إسرائيل” وموقف إيران » !.
فلماذا تحول المشهد الراهن إلى إحدى مشاهد (مسرح اللامعقول)؟
لقد تحوَّل الكومبارس ” الإسرائيلي” والإيراني إلى لاعب رئيسي على خشبة المسرح وأقصيا صانعيهما من دول الرأسمال الغربي إلى وراء الستار. واقتضى الدور مشهدية تمرّدهما على أوامره، وخروجهما عن لائحة نواهيه، ووصول الأمر إلى استجداء الحل منهما للصراع الدائر في هذه المرحلة أمام المشاهد العالمي. فهل من تفسير لما يجري؟ . على هذا السؤال سيتركَّز مقالنا التالي:
مدخل لا بُدَّ منه
في نظرة إلى واقع العالم في مرحلته الراهنة نجد أن الشرق الأوسط يحتل حجر الزاوية فيه، والدليل أنه على الرغم من أن الصراع الدولي في أوكرانيا يمثل
الصراع المباشر بين الشرق والغرب، الا انه اختفى عن اهتمام الساحة الإعلامية الدولية أمام ما يحصل الآن من عدوان وحشي دامٍ في فلسطين، وفي لبنان.
ولهذا السبب نعتقد بأن اهتمام العالم بكل دوله وأنظمته وشعوبه ومنظماته الأهلية والمدنية ينصب ربما لرسم خريطة طريق لشرق أوسط جديد قد يختلف او يتجاوز في جوانبه المشاريع الشرق أوسطية الأخرى التي عرفها العالم، وهي:
– مشروع كامبل بانرمان في العام 1907.
– مشروع برنارد لويس الشهير بتقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية، والذي استمرَّ الترويج له ومحاولة تنفيذه طوال المرحلة التي ابتدأت بإسقاط الاتحاد السوفياتي في العام 1991، واحتلال العراق في العام 2003، ودخل تنفيذه مرحلة حاسمة في العام 2011، ثم تباطأت عجلته منذ العام 2015 بخروج النظام التركي منه.
لقد أساء المشروع المذكور كثيراً في حينها للعلاقات الأميركية مع بعض الدول العربية. وتمخض لاحقاً عن ظاهرتين جديدتين، وهما: ترميم العلاقات بين أميركا وتلك الدول من جهة، وانتفاضة روسيا وتأكيد تحالفها مع الصين لإعادة بناء نظام دولي يحكمه أكثر من طرف واحد، وانفتاح بعض الدول العربية عليها لخلق حالة من التوازن في العلاقة مع القوى العالمية.
واستمرَّت الظاهرتان في التفاعل وقيد المراجعة والترميم من قبل أميركا، حتى تشرين الأول من العام 2023، إلى أن اندلعت فيها عملية طوفان الأقصى انطلاقاً من قطاع غزة، تلك العملية التي شكَّلت مشهدية العامل الضاغط على دول العالم قاطبة، وفي المقدمة منها دول الغرب الرأسمالي، وكأنها تبادر لوضع فلسفة جديدة ترسم خارطة طريق لحل مستدام لقضية الشرق الأوسط. وهذا قد يعني إعادة
توصيف وسيطرة على كل من المشروعين الصهيوني والإيراني ووضع حدود جديدة لهما ، مع استمرار استخدام الدولتين لضمان الهيمنة على الامة العربية.
ثوابت دولية مستقبلية لا بُدَّ من معرفتها
بعد انقضاء المرحلة التاريخية التي شهدت كل المشاريع السابقة التي حيكت للاستيلاء على الوطن العربي ومنطقة الشرق الأوسط منذ مشروع كامبل بانرمان، قامت عملية طوفان الأقصى لتشكل سبباً ومدعاة لدول العالم وفي المقدمة منها الولايات المتحدة الأميركية، لوضع فلسفة جديدة تقوم عليها خريطة ما تسميه “حلاً” للمنطقة، تضمن بالدرجة الاساس مصالحها الاقتصادية. وهذا يتطلب حسب زعمها في الترويج لهذا الحل، الغاء “بؤر التوتر” التي تعيق عملية التنمية الاقتصادية والاستفادة من ثروات المنطقة العربية وموقعها الجيوسياسي في قلب العالم.
ولقد كان الأخطر في المشاريع السابقة التي سعت الى تقاسم النفوذ في المنطقة العربية هو:
– المشروع الأول: مشروع ديني غيبي تلمودي وكانت اهدافه الاستراتيجية بناء نظام عالمي يحقق أحلام «شعب الله المختار» استناداً إلى نص توراتي، تقوده حكومة عالمية للسيطرة على العالم كما نصت عليه «بروتوكولات حكماء صهيون». وقد حظيت الصهيونية العالمية بوعد لقيام دولة له في فلسطين منذ العام 1907، وكان العام 1948 بداية لتنفيذه. وثبَّتت حكومة نتنياهو الحالية طبعتها الثالثة وهي ذات أيديولوجيا دينيية يمينية متطرفة مدعومة من عتاة
الصهيونية العالمية. واستناداً إلى ذلك الدعم اظهرت حكومة نتنياهو ” في العَلَن” رفضها الأوامر الأميركية بإدارة جو بايدن، للوصول إلى وقف لإطلاق النار في غزة، او البدء بالإعداد لإنهاء الصراع الإسرائيلي – العربي على قاعدة حل الدولتين. وكان الرفض مبنياً على أن الحل على تلك القاعدة يلجم جموح المشروع الديني التلمودي الذي يُعتبر العقيدة النهائية لحكومة نتنياهو، والذي في حقيقته يتقاسم النفوذ مع مشروع غيبي ايراني ويتكامل معه.
– والمشروع الثاني: مشروع ديني غيبي ايراني ، وضعه الخميني وهو رجل دين إيراني، في أواسط النصف الثاني من القرن العشرين، وعلى أساسه وصل المذكور إلى حكم إيران في نهاية السبعينات من القرن العشرين.
وقد احتضن النظام الرأسمالي الغربي المشروع الصهيوني احتضاناً كاملاً وبشكل مباشر وعلني ليشكل القاعدة الأمامية العسكرية للرأسمالية العالمية، وكانت وظيفته عسكرية لحماية المصالح الرأسمالية وبما يتناسب مع مشروع تقسيم الوطن العربي وتفتيته على أسس جغرافية؛ وفي المقابل احتضن النظام الرأسمالي الغربي نفسه مشروع «ولاية الفقيه» احتضاناً كاملاً وإن كان بشكل سري ومستور، وكانت وظيفته المشاركة في تنفيذ استراتيجية مشروع برنارد لويس في تقسيم المقسَّم من الوطن العربي وتفتيته على أسس جديدة مذهبية ودينية وعرقية.