غاية الفلسفة عند إبكتيتوس هي غايةٌ عملية أخلاقية: أن تُرشد الناس إلى طريق الحياة الصالحة،

الطريق الذي يؤدي إلى «اليوديمونيا» أي الحياة السعيدة المزدهرة. الفلسفة عند إبكتيتوس هي فن الحياة. ومثلما أن المادة الخام التي يعمل عليها النجار هي الخشب، والمادة التي يعمل عليها المثَّال هي النحاس، كذلك الأمر في الفلسفة-فن الحياة فإن مادتها، أو خامتها، هي الحياة، حياة كل إنسان مِنَّا.
يعرف الحكيم الرواقي أنَّ حياة الإنسان الواقعية ليست وردية اللون على الدوام، ويعرف أنَّ أغلب الناس غير قانع بحياته، وأنَّ العوائق والإحباطات تتربص به كل حين، والخيبات والمصاعب تقعد له كلَّ مَرصَد، وأنَّ لحظات الهناء الحقيقي نادرة وقصيرة، وحتى هذه يتناوشها القلق ويأكلها الحرص وينقُصها من أطرافها. إننا مهدَّدون في كل لحظة بالفشل والخسران، والمرض والإصابة، والأخطار والكوارث. وحتى السلامة ليست غيرَ عدوٍّ خفيٍّ وداءٍ دَوِيٍّ؛ لأنها لا تُسْلِمنا إلا للفَناء الآجل والموت المحتوم.

«ولكن ما هي الفلسفة؟ أليست تعني الاستعداد لمواجهة الأمور التي تُلِم بنا؟» (المحادثات، ٣-١٠). لا تَعِدُ الفلسفة بتقديم أي شيء «خارجي» من الأشياء التي يظنها الناسُ خيرًا ويَرْهَنون لديها هناءهم وسعادتهم. إنما تنجُم الآلام والكروب من اعتقاداتنا الخاطئة عما يكونه الخير الحقيقي، إننا نستثمر أملنا في الشيء الخطأ، أو على الأقل بالطريقة الخطأ. فقدرتنا على بلوغ السعادة والازدهار تعتمد على إرادتنا وحدها ولا تتوقف على أي شيء آخر. غير أنَّ امتلاك الإرادة الخيِّرة، الإرادة التي تستخلص الخير من كل أمر، ليس بالمهمة اليسيرة، ولا يتم دفعةً واحدةً، إنَّه يتطلب الممارسة والتدريب وعدم الاكتفاء بالتعلم النظري، فمزاولة الأفعال يحفظ الطبع ويثبِّته.

درب الحكمة طويل، درب الانسجام مع الطبيعة. «ليس هناك شيءٌ عظيمٌ يتأتَّى فجأة، فحتى العنب والتين لا يأتيان فجأة. إذا قلت لي الآن إنك تريد تينةً سأُجيبك بأنها تتطلب وقتًا، دعها تُزهِر أوَّلًا، ثُمَّ تحمِل ثمرًا، ثُمَّ تنضج. أليست شجرة التين إذن تقتضي الأرض زمنًا حتى تُكمل عملها ولا تؤتي ثمارها في ساعة واحدة؟ أتظن أن بإمكانك أن تملك ثمارَ العقل البشري بسهولة وفورية؟! حذارِ أن تتوقع ذلك حتى لو قلت لك» (المحادثات، ١-١٥).

تتمثل الدعوى المحورية للأخلاق الرواقية في أنَّ الخير الوحيد هو الفضيلة والأفعال التي تبعثها الفضيلة، والشر الوحيد هو الرذيلة والأفعال المدفوعة بالرذيلة. عندما يسعى المرء إلى اللذة مثلًا أو الثروة، ظنًّا منه أنَّ هذه الأشياء خير، فإنه يرتكب خطأً في الحكم يُفضي إلى خطأ في الوجدان والنزوع؛ فالخير هو الشيء النافع لصاحبه تحت كل الظروف، وهو وصفٌ لا ينطبق على اللذة والثروة والمنصب والصحة وغير ذلك من الأشياء الخارجية التي قد يستخدمها المرءُ استخدامًا سيِّئًا فتكون وبالًا عليه. جميع الأشياء إذن، عدا الفضيلة والرذيلة، هي أشياء «أَسْوَاء» أو «لا فارقة» ؛ أي ليست بذاتها خيرًا ولا شرًّا.
يسعى الرواقي، شأنه شأن غيره من النَّاس، إلى الثروة وإلى الصحة وإلى المجد، ويُفضلها على الفقر والمرض والخمول، غير أنَّه يفعل ذلك بطريق مختلفة عن سواه ممن لا يعيش حياةً فلسفيةً؛ إنَّه «يفضِّلها» في حالة تساوي جميع العوامل، ويسميها «المُفضَّلات» ، لا بوصفها خيرًا في ذاته، بل بما لها من قيمة أداتية؛ إذ يمكن أن تُسهِم في ازدهار الحياة بصفتها موضوعاتٍ نُعمِل فيها إرادتنا الخيِّرة وليس بأي صفةٍ أخرى، غير أنه لا يبتئس لفقدها ولا تذهب نفسه عليها حسرات؛ لأنَّها ليست خيرًا. إنَّما الخير هو الاستخدام القويم لهذه المفضَّلات حين تتوافر للمرء. ولن تكون حياته بدونها أقل خيرًا ما دام محتفظًا بالإرادة الخيِّرة ومتقبِّلًا لما يجري به القضاء. «الإرادة إذن تحمل في ذاتها كل خير وكل شر. ولما كانت الأشياء الخارجية «متساوية»، فالأفعال الخارجية ليست في ذاتها حسنة ولا قبيحة إذا فصلناها عن الإرادة العاقلة التي تُحدِثها. وليس معنى هذا أن كل شيء خير، وإنَّما «الخير» هو ما يفعله المرء مع حسن النية، والشر هو ما يفعله مع سوء النية» (المحادثات، ٤-٨). «وإذن فالعقل والإرادة عند إبكتيتوس أمران متميزان من الأشياء التي يؤثران فيها. وأفعالنا ينبغي أن لا يُحكَم عليها بحسب نتائجها، سارَّة كانت أو مؤلمة، بل بحسب النية التي تصاحبها. والحاكم على الإنسان بالإدانة أو بالبراءة هو الضمير.»١

هامش:
١ د. عثمان أمين: الفلسفة الرواقية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٧١، ص٢٤٩.

•••
د.عادل مصطفى
المختصَر لإبكتيتوس: دراسةٌ وتعليق