يكشف الكتاب الحيل التي اتّبعتها حيتان “الشركاتية”، والتي تتراوح من غسيل الأموال وتفادي دفع الضرائب فيما يعرف بنظام “الأفشور” إلى ارتكاب جرائم الحرب الاقتصادية.
إنّ لعبة القتل أو محاولة القتل التي لم توفّر حتى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في مهرجانه الانتخابي ليست وليدة صراعات تنافسية آنيّة، وسواء كانت مسرحية أو لعبة حقيقية إلا أنّ وراءها تاريخ طويل بعمر إمبراطورية العولمة الاقتصادية التي تمارسها “الشركاتيّة” في عالم محفوف بالغموض والسريّة واللا أخلاقية.
ومن يكتشف أسرار تلك اللعبة منذ نشأتها الأولى يدرك أن المسرحية الحقيقية ليست في خدش أذن ترامب بقدر ما هي في الانتخابات الأميركية نفسها.
هذا السرّ الذي ما زالت تحلّ عرى عقده وتتكشّف خفاياه يوماً بعد يوم، تحدّث عنه الرئيس السوري بشار الأسد في إحدى مقابلاته حين أشار إلى أنّ الرؤساء في الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأميركية هم عبارة عن مديرين تنفيذيّين، وأما صاحب القرار الحقيقي فهم الشركات الكبرى.
الخادم الفارّ من سراديب الإمبراطورية
في هذا الكتاب نحن أمام اعترافات خادم فارّ من سراديب إمبراطورية “الشركاتية” ليكشف لنا اللثام عمّا وراء معظم الأزمات العالمية والكوارث البشرية الكبرى، وكيف أدّت تلك الإمبراطورية دورها في تجويع العالم وإخضاعه لسيطرتها من خلال شبكة واسعة من العولمة الاقتصادية المتسلّلة إلى جيوب الدول والشعوب الفقيرة.
يكشف كتاب “لعبة بعمر الإمبراطورية” لكاتبه جون بيركنز العالم الخفي للقتلة الاقتصاديين وشبكة الفساد المعولم من خلال 433 صفحة من المعلومات والاعترافات الخطيرة لرجال اقتصاد أطلق عليهم لقب “القتلة الاقتصاديون”.
أصدرت الكتاب بطبعته الأولى شركة المطبوعات والتوزيع والنشر في لبنان وترجمه أستاذ الترجمة والتربية “أحمد الصيداوي”.
طريق الكتاب المحفوف بالتحديات
لم يكن الطريق معبّداً أمام الإفصاح عن هذا الكتاب بما ينطوي عليه من اعترافات خطيرة، حيث يروي لنا كاتبه رحلته القاسية المحفوفة بالصدّ والرفض والمخاوف قبل أن تبصر اعترافاته النور وتفجّر قنبلة الحقائق للعالم.
يقول جون بيركنز في مطلع الكتاب عن آخر المطاف: “قام ناشر مستقلّ شجاع يدعى بيريت كوهلر بتبنّي الكتاب، وجاء نجاح الاعترافات لدى الجمهور ليذهلني، فخلال الأسبوع الأول من عرضه في المكتبات احتلّ المرتبة الرابعة في تصنيف شركة أمازون وبقي عدة أسابيع على قائمة المبيعات الأكثر رواجاً، وفي 14 شهراً جرت ترجمته ونشره إلى عشرين لغة واشترت شركة كبرى من هوليود حقّ إخراجه كشريط سينمائي”.
ولحسن الحظ وصل الكتاب إلى أيدينا لنطّلع على جملة الأحاجي المطوية منذ حقبة من الزمن تعرّي من خباياها معلومات تكشف عن أكثر من 375 بليون دولار تدفعها الدول الفقيرة سنوياً مرغمةً، وذلك لتفي ديونها التي تبلغ ما يقارب عشرين ضعفاً عن المساعدات الأجنبية التي تتلقّاها، وفق ما سمّي بمشروع “مارشال المعكوس” الذي يرغم بلدان الجنوب الفقيرة على إعطاء معونات مالية لبلدان الشمال الغنية، ولو وصل الأمر إلى أن يعيش نصف سكان العالم على أقلّ من دولارين في اليوم.
كيف خلقت أوّل إمبراطورية معولمة في العالم وفرضت على ملايين الناس حياة الشقاء والفقر؟
بمعلومات تفصيلية واعترافات أكثر من متورّط، يكشف الكتاب الحيل التي اتّبعتها حيتان “الشركاتية”، والتي تتراوح من غسيل الأموال وتفادي دفع الضرائب فيما يعرف بنظام “الأفشور” إلى ارتكاب جرائم الحرب الاقتصادية، ليفضح الجانب المظلم من تلك العولمة التي أرست نظاماً يعتمد على الغشّ والابتزاز والعنف.
ويذكر الكاتب على سبيل المثال لا الحصر كيف يقوم أحد الموظفين في مصرف يعمل بنظام الأفشور (تفادي الضرائب بطرق غير قانونية) بإخفاء مئات الملايين من الدولارات من المال المسروق، كذلك إقدام مستشاري صندوق النقد الدولي على تخفيض برامج التعليم والصحة تخفيضاً كبيراً في غانا، والمساعي البيروقراطية للحصول على تنازلات نفطية في أفريقيا، وإيكال مستشار أجنبي مهمة كتابة قانون النفط العراقي، وكيف كلّفت اتفاقيات المشاركة في الإنتاج المفروضة على العراق الشعب العراقي مئات البلايين من الدولارات قبل أن يرزح تحت نير الفقر إلى غيره من بؤر الفساد العالمي.
فصول اللعبة الخفية وراء السيطرة على العالم
تجمع فصول الكتاب أجزاء خارطة السيطرة بالمال والنفوذ لتوضح لقرّاء شعوب العالم كيف تتمّ عمليات بيع القروض لبلدان العالم الثالث، وتدفّق المال الوسخ الذي يعود إلى سيطرة العالم الأول عن طريق حسابات سرّية في المصارف تعمل بنظام الأفشور، وفشل برامج الإنماء القائمة على الديون في تخفيف حدّة الفقر، وتراكم جبال من الديون غير المدفوعة وتقويض الاقتصادات المحلية بواسطة صندوق النقد الدولي.
أسباب كره العالم لأميركا بلسان أميركي
يتحدّث الكاتب الأميركي جون بيركنز بحسرة عن أسباب كره العالم لبلاده بالقول: “نتيجة سياسات الشركاتية يموت يومياً 24 ألف شخص من الجوع، ويموت عشرات الآلاف معظمهم من الأطفال نتيجة لأمراض يمكن شفاؤها لكنهم عاجزون عن دفع ثمن أدويتها. جوهر الكلام هو أنّ نظامنا الاقتصادي يقوم على صيغ حديثة من استغلال البشر تستحضر صوراً من الرقّ والعبودية”.
كيف وقع العالم الثالث ضحية اللعبة؟
علاوة على شراك السيطرة المالية والعسكرية والسياسية التي أوقعت “الشركاتية” العالم الثالث في حبائلها، يبرز الاحتكار القائم على ما سمّي بالوجوه المتعلّقة بالتجارة لحقوق الملكية الفكرية والقرصنة البيولوجية كعامل آخر للسيطرة على الأسواق والتلاعب بها، وإزاحة منتجي العالم الثالث من تبوّء هامات الأسواق المربحة وزجّهم في فخّ إنتاج السلع.
يتحدّث بيركنز عن المرغمين بين الجزرة والعصا بقوله: “تحرص الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من القوى على إقامة علاقات مع اللاعبين الرئيسيين في الإدارة والجيش ومع أهل الاقتصاد، ووسائل الإعلام، والأوساط الأكاديمية، واتحادات التجارة. وبعد عقد عدة اجتماعات هادئة وتوفير الأموال لمختلف الجماعات، يجد البلد غير المتعاون نفسه في وضع يتزايد فيه التوتر السياسي وتصادف الحكومة مقاومة من قبل مسانديها السابقين”.
لينتهي الأمر بهروب الأموال خارج البلاد، وتعثّر الاستثمار، وزيادة البطالة، لتكون بمثابة رسالة إلى الحكومة فإما أن تتلقّاها وتغيّر مسارها ليعود المال وتعود البضائع إلى جزيرتها المهجورة فتشرق من جديد، أو استخدام استراتيجيات أقوى في رصّ الأذن مثل اغتيال الأفراد القياديين أو الانقلابات العسكرية أو الحرب الأهلية.
نشأت الهواتف الذكية من مستنقعات الدّماء البشرية
تلك الهواتف الذكية التي بين أيدينا اليوم يشرح لك الكاتب كيف انغمست بدماء الملايين من أبناء الكونغو في الحرب الأهلية التي افتعلتها الشركات متعدّدة الجنسيات في رحلة البحث المحموم عن مادة الأوكتان، وهو من المعادن الخام التي تلزم لصناعة الأجهزة الخليوية والحواسيب ومحطات اللعب، وكذلك يروي عدداً من مآسي عمليات الاغتصاب التي خلّفتها شراهة تلك الشركات للمعادن الأخرى التي تذخر بها الكونغو كالذهب والماس والنحاس والزنك والأورانيوم والكوبالت والكادميوم وغيرها.
وحول نهاية القصة بعد كلّ تلك الكوارث والمحارق والمجازر التي جناها التواطؤ الغربي في حروب الكونغو وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، يروي لنا الكاتب الخاتمة المخزية في تهرّب الولايات المتحدة الأميركية من محاسبة الشركات المسؤولة عن مجازر الإبادة الجماعية في الكونغو، وهو النهج الذي ما زالت تتّبعه أميركا إلى اليوم في كلّ مكان من العالم وخاصة في فلسطين المحتلة.
آخر فصول اللعب والانتفاضة العالمية الكبرى
يشرح الكتاب في فصوله الأخيرة كيف أسهمت حركة العدالة العالمية بما يشبه انهيار منظّمة التجارة العالمية وتنحية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي جانباً، وكما أزاح الستار عن اللعبة القديمة بعمر الإمبراطورية يضيء أيضاً على التاريخ الطويل والهام والملهم لمقاومة تلك اللعبة ببداياتها وانتصاراتها وبدائلها وتحدياتها.
ويبحر بنا الكتاب في محطات المقارعة العالمية “للشركاتية” منذ أن أبصرت طريق الأمل أولى المنظّمات الدولية ضدّ عولمة الشركات، مثل منظّمتي “تكفينا خمسون سنة” و “جوبيلي 2000” اللتين سعتا إلى انتخاب موظفين، وأجراء تحاليل ونشر تقارير وتنظيم جلسات تعليمية ومؤتمرات صحافية وتظاهرات احتجاجية في كل العالم، إلى مساهمة الدول النامية في إحراز النصر الأول من خلال هزيمة الاتفاقية متعدّدة الأطراف حول التثمير (MAI)، وانهيار الاجتماع الوزاري في سياتل.
وصولاً إلى انتفاضة عالمية أحرزت إخفاقاً لمحادثات منظّمة التجارة العالمية في سياتل وأدت إلى تظاهر أكثر من 30 ألف شخص في نيسان/أبريل من العام 2000، ضدّ اجتماعات الخريف السنوية التي يعقدها البنك الدولي في واشنطن، وليس انتهاء بتجمّع أكثر من 10 آلاف شخص في البرازيل عام 2001 من أجل أوّل لقاء للمنبر الاجتماعي العالمي لمناقشة البدائل الصالحة لعولمة الشركات.
وتلتها أيضاً انتصارات انتخابية كالتحدّي الجسور الذي قام به رئيس وزراء ماليزيا محمد مهاتير، والذي أدى إلى قطع صلته بصندوق النقد الدولي وفرض ضبط لرؤوس الأموال منقذاً بلده من أسوأ النتائج لتلك الأزمة.
يبثّ الكتاب في أعماقك فهماً وحماساً وثورة لإنهاء حالة هذا الغشّ العالمي والتوحّش الاقتصادي الذي ما زال يجرّ خلفه الويلات على الشعوب المستضعفة، والذي ما زالت الولايات المتحدة الأميركية تأخذ دور العرّاب في لعبتها المكشوفة، وما يبعث على الأمل بين آخر سطر من الكتاب وآخر الوقائع التي نعيشها اليوم تفجّر ينابيع الصحوة العالمية أكثر فأكثر، وانطلاقها نحو التخلّص من سطوة السلطة العالمية والقطب الواحد والعملة الصعبة المفروضة على كلّ دول العالم نحو ما أنتجته مؤخراً كمنظّمة شنغهاي ومنظّمة أوبك بلاس وغيرها من الاتفاقيات الاقتصادية التي لجأت إليها الدول ذات الحكومات الوطنية للتعامل بالعملة الوطنية وتغليب المصالح الوطنية على مصالح النظام العالمي.