رؤية نقدية في راهنية المقاومة الإسلامية من مقاومة شعبية إلى جيش ميني نظامي في 15/ 11/ 2024 حسن خليل غريب

تكاثرت الآراء حول تفسير ظاهرة المقاومة في لبنان وفلسطين، ما بين اعتبارها ظاهرة مقاومة شعبية كما يدل عليها مفهومها الذي كان شائعاً قبل المرحلة الراهنة، وبين مفهومها السائد في المرحلة الراهنة، بحيث تحوَّلت إلى جيل الحروب الرسمية النظامية، بتفريغ عشرات الآلاف من المقاتلين والصواريخ العابرة للحدود. والقصد منها، كما تزعم المقاومة الإسلامية في لبنان الوصول إلى ما يسمونه التوازن في معادلات الردع. وغاب عن بالها، أو أنها أرادت أن تغيِّب عن بالها، أن الوصول مستحيل ليس على معادلات الردع فحسب، بل استحالة الحصول على مستلزمات الحد الأدنى منه.
كما تباينت الآراء حول مفهوم المقاومة الشعبية الفلسطينية بعد (طوفان الأقصى) عن مفهومها ما قبل (الطوفان). وبعد أن كان سلاحها الحجر والبندقية والعبوة الناسفة يكفيها عدد من مئات المقاتلين السريين، راحت تكدس عشرات الآلاف من المقاتلين والصوارخ العابرة.
تلك التباينات في المواقف، وعلى قاعدة أن لكل ظاهرة -في زمانها ومكانها- إيجابيات وسلبيات، أصبح العقل النقدي الموضوعي مطلوباً وبإلحاح في تفسير وتقييم تلك التباينات للخروج بموقف يكون أكثر قرباً للاستفادة منها في مستقبل الحركة العربية الثورية ومهماتها في تحرير الأرض العربية التي تتعرض لاحتلال من قبل دولة أجنبية.
مفهوم المقاومة الشعبية المسلحة:
المقاومة الشعبية المسلحة التي تواجه الاحتلال الاجنبي، هي مقاومة شعبية سرية، يقوم بها أفراد أو مجموعات ضد قوات العدو. وسلاحها خفيف لتمكينها من سرعة الانتقال في الكر والفر. وعادة ما يكون سلاحها البندقية الفردية والعبوة الناسفة والسلاح الخفيف المخصص ضد الدروع، بحيث ينفِّذ المقاتل عمليته ويختفي. وتقتضي قواعد المقاومة الشعبية أن تبتعد عن استخدام أسلوب القواعد العسكرية الثابتة لأن تلك القواعد تصبح سهلة المنال من قبل قوات العدو المحتل.
تلك القواعد العامة استخدمتها كل الثورات الشعبية المسلحة في العالم، ولم تشذّ المقاومة العربية في شتى الأقطار العربية عن تلك القواعد. والتي كانت نتائجها إلحاق الهزيمة بالعدو، كما حصل في الجزائر في العام 1954، وفي لبنان في العام 2000. وكما حصل في العراق في العام 2011.
المقاومة العربية الشعبية المسلحة نجاحات وإخفاقات:
بعد الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، ولأن المقاومة الفسطينية بقيادة جركة فتح، كانت السبَّاقة في انطلاقة المقاومة الشعبية المسلَّحة. وللاستفادة من تجاربها التاريخية التي ابتدأت في 01/ 01/ 1965، إي تاريخ انطلاقة الثورة الفلسطينة من الأراضي اللبنانية، يمكننا الوقوف بإيجاز شديد عند تاريخيتها لتساعدنا على استخلاص النتائج التي سنتوصل إليها في هذا المقال.
في تلك الظروف انطلقت حركة فتح في أول عملية مسلحة شعبية ضد العدو الصهيوني انطلاقاً من الأراضي اللبنانية على قاعدة استخدام حرب العصابات التقليدية (إضرب واهرب)، من دون ان يستطيع أحد أن يرى من هم أولئك الفدائيين بأكثر من البيان الأول الذي صدر عنها.
وواصلت حركة فتح عملياتها التقليدية وظلَّ من كانوا يقومون بها من المجهولين، وكان مرحَّباً بهم شعبياً ورسمياً على المستوى القومي العربي بشكل عام، وفي لبنان بشكل خاص، حتى وقوع حرب السادس من حزيران من العام 1967. ومن أجل أن تشكِّل رافداً للحرب النظامية التي كانت تعدُّ لها دول الطوق لتحرير الأرض العربية المحتلة -بما فيها فلسطين- حينذاك احتضن النظام العربي الرسمي تلك الظاهرة وتقرَّر تمثيلها في القمم العربية.
ومنذ تلك اللحظة راحت المتغيرات تتداعى واحداً تلو الآخر، وكان من أهمها الاعتراف بوجودها على الأرض اللبنانية بإصدار اتفاق القاهرة، في العام 1969، الذي أقرَّ للمقاومة الفلسطينية حق بناء قواعد لها في منطقة العرقوب، التي تقع في جنوب شرقي لبنان، أي في المثلَّث اللبناني الفلسطيني السوري. وتمت تسميته بـ(فتح لاند).
ربما كان هذا المتغير الذي تُرجِم بـ(اتفاقية القاهرة)، مستنداً إلى استراتيجية التكامل بين المقاومة الشعبية الفلسطينية ومتابعة الإعداد الرسمي العربي لتوفير مستلزمات الحرب النظامية لتحرير فلسطين، بحيث تشكل فيه المقاومة الفلسطينية وسيلة من وسائل حرب التحرير الشعبية.
ولكن تطورات الأمور لم تدع للعرب فرصة استكمال تلك الاستراتيجية، بعد وفاة جمال عبد الناصر التي ترافقت مع أيلول الأسود في الأردن في العام 1970 باجتثاث المقاومة الفلسطينية، التي كان من أهم نتائجها تجميع كل الفصائل الفلسطينية في لبنان.
كان من أهم السلبيات التي مارستها المقاومة الفلسطينية من لبنان، هو أنها سيطرت على كامل المخيمات الفلسطينية من جهة، ومن جهة أخرى اقتطعت لنفسها مساحات جغرافية من الأرض اللبنانية غير المشمولة باتفاقية القاهرة، وجزءًا من السيادة السياسية. وكان من أخطر أخطائها إحداث الفراغ الأمني في جنوب لبنان، بعد أن أسقطت المؤسسة العسكرية اللبنانية، بكامل ثكناتها، لتصبح المقاومة الفسطينية، مع القوات التابعة للحركة الوطنية اللبنانية في مواجهة مباشرة مع العدو الصهيوني.
وبمثل تلك المتغيرات تحوَّلت استراتيجية المقاومة الشعبية المسلحة إلى استراتيجة عسكرية نظامية يتفوق فيها العدو الصهيوني بالعدَّة والعتاد. وعلى الرغم من أنها نفَّذت المئات من العمليات العسكرية داخل الأرض الفلسطينية المحتلة، ولكنها تحولت من حرب العصابات إلى حرب مواقع معروفة ومكشوفه للعدو.
ومن دون الإطالة بالتفاصيل، بدأت مرحلة العد العكسي لنهاية استراتيجية التكامل بين الحرب العسكرية النظامية والمقاومة الشعبية المسلحة، وخاصة بعد أن عقدت مصر أنور السادات معاهدة كامب ديفيد بعد حرب السابع من أكتوبر من العام 1973، بحيث انتهت المرحلة بإخراج الوجود الفلسطيني المسلح من لبنان بعد العدوان الصهيوني في الخامس من حزيران من العام 1982.
وبذلك انتهت مرحلة أساسية في تاريخ المقاومة الفلسطينية، وابتدأت مرحلة المقاومة الوطنية اللبنانية في ايلول من العام 1982، لتزاول مهماتها على أسس سليمة من حرب التحرير الشعبية التي ضمت إلى صفوفها كل الأحزاب والتيارات الوطنية اللبنانية، من كل الطوائف والمناطق.
حينذاك، كانت تحتاج إلى مئات فقط من المقاتلين السريين بعتادهم الخفيف، ونفذَّت المئات من العمليات العسكرية ضد قوات الاحتلال، بحيث أرغمتها على القيام بانسحابات متتالية بدأت بانسحابها من بيروت إلى حدود تهر الأولي شرق مدينة صيدا، ومن بعدها الانسحاب منها وجوارها إلى تلال إقليم التفاح ومنطقة جزين، ولكن لم تستمر تلك التجربة طويلاً حتى دخل عامل جديد إليها، وهو ظهور ما يتم تسميته بـ(المقاومة الإسلامية) بعد العام 1985.
مستندة المقاومة الإسلامية إلى دعم إيراني وحماية سورية، قامت باحتكار العمل الشعبي المقاوم بمنع كل مقاتل لا يؤمن بأيديولوجيتها ومشروعها المذهبي، ليصفو لها الجو في المقاومة من دون مشاركة أحد آخر، خاصة أنها تميزت بتعميم شعاراتها المذهبية، وأهدافها المذهبية. وتأكَّد لاحقاً المخاطر التي عكسها ذلك الاحتكار على بنية الدولة اللبنانية، وعلى التغيير الجذري في مفهوم المقاومة الشعبية المسلحة. وعلى الرغم من كل ذلك، فقد نجحت في طرد العدو الصهيوني من جنوب لبنان في الخامس والعشرين من العام 2000. وتلك النتيجة كانت مدار ترحيب وطني عارم.
المقاومة الإسلامية تبني دويلتها داخل الدولة:
كل التجارب في العالم أكَّدت أن وظيفة المقاومة الشعبية المسلحة تنتهي بعد إنجاز تحرير الأرض المحتلة، لتبدأ بعدها وظيفة الدولة الوطنية الرسمية. وهذا يعني أن السلاح المقاوم يتم وضعه تحت سلطة الدولة، ويتحول المقاومون إلى مواطنين يسهم كل منهم حسب إمكانياته في بناء المؤسسات الرسمية وخاصة في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ولكن العكس هو ما حصل مع المقاومة الإسلامية في لبنان. وفيه أصرَّت ليس على الاحتفاظ بسلاحها فحسب، بل فرضت أيضاً تشريعه في البيانات الوزارية تحت شعار (جيش – شعب- مقاومة) من جهة، والعمل على زيادة سلاحها كماً ونوعاً وتطويع عشرات الآلاف من المقاتلين من جهة أخرى.
وبمثل هذا التحويل القسري تحوَّل الجيش في لبنان إلى جيشين: جيش المقاومة يمتلك القوة والقرار، وجيش الدولة ضعيف لا قوة لديه ولا قرار. والشعب إلى شعبين (شعب المسلمين الشيعة المقاوم!!، وشعب مُستبعَد قسراً من المقاومة).
وإذا ما حاولنا أن نقارب بين مفهوم الدولة الوطني العالمي مع مفهوم الدولة اللبنانية في الواقع السائد، لن نجد بينهما أي تقارب بل تباعد وافتراق لا يمكنه من الاستمرار. ولكنه لو استمر فسوف يكون فتيلاً دائماً لإشعال فتنة أهلية من هنا، وفتنة من هناك. وقد أكَّدت الوقائع الكثيرة صحة ما نكتب عنه.
وهنا نتساءل: ما هي أسباب ما حصل وما قد يحصل، ومن أين نستطيع توفير الحلول؟
وأما الأسباب فلأن من احتكر العمل المقاوم، لدحر الاحتلال الصهيوني عن جنوب لبنان، كان يخطِّط للاندماج بمشروع نظام ولاية الفقيه في إيران، كمشروع أيديولوجي خارجي عابر للحدود، على أن يُلحق لبنان به مستفيداً من أهمية إنجازه تحرير الجنوب. وبذلك وظَّفت (المقاومة الإسلامية) مسألة التحرير، كقضية وطنية ظاهرها حق، لكي تصب في مصلحة مشروعها الديني السياسي الباطل لارتباطه بمشروع أيديولوجي خارجي عابر للحدود.
كان يحسب أن انتصاره سيفرض على لبنان الرضوخ لتخطيطه الاحتفاظ بسلاحه من دون رقابة الدولة. ولهذا كدَّس عشرات الآلاف من الصواريخ على شتى أنواعها، وأعدَّ جيشاً من عشرات الآلاف من المقاتلين المؤهلين لخوض معركة عسكرية نظامية. وقد أكدَّت أحداث ما بعد انطلاقة عملية طوفان الأقصى تلك الحسابات. وإذا كان إعداد آلاف المقاتلين لخوض حرب دفاعية برية أمر مطلوب ويمكنه إفشال أي اجتياح بري للعدو، لكنه أخطأ حسابات إعداده لحرب نظامية بالصواريخ العابرة للحدود الجغرافية، والخطأ يعود إلى ارتكازه على مخيلة ما يزعم أنه (نصر إلهي) متناسياً أن للنصر شروطاً مادية وعتاداً عسكرياً وتكنولوجياً لا يمكن لأحد أن ينتصر في الحرب من دون توفيرها.
ولهذا السبب، بوضوح لا لبس فيه، أصرَّت (المقاومة الإسلامية) على الخروج عن مفاهيم المقاومة المعروفة عالمياً ووطنياً، والبستها ثوباً مفهومياً هجيناً، وأعدَّت نفسها لخوض حرب نظامية، بينما هي عاجزة عن توفير مستلزماتها في مواجهة أعتى قوة عسكرية نظامية عالمية في المرحلة الراهنة؛ وهي وإن كان بإمكانها إلحاق أذى جزئي بقاعدة الاستعمار (الإسرائيلية)، لكنها عاجزة عن الصمود أمام هول ترسانتها العسكرية من عدة وعتاد.
أين هو الحل؟
من أولويات أي حل هي الآتية:
-اعتبار الوحدة الوطنية اللبنانية من ثوابت أي حل، وهذا يُوجب على (المقاومة الإسلامية) أن تفك ارتباطها بالمشروع الإيراني أولاً، لأن من (يعطي يأمر). ولأن للعطاء الإيراني أهدافاً تصب في مصلحة نظامه السياسي، أثبتت الوقائع أن القيادة الإيرانية كانت تلقِّن أوامرها بشكل مستتر لقيادة المقاومة الإسلامية في إيران، ما فتئت إلى أن كشفت عن قيادتها مباشرة وبشكل علني وسافر بعد انطلاقة عملية طوفان الأقصى في غزة تحت غطاء شعار (وحدة الساحات) و(حرب المساندة)، التي أرغمت فيه إيران وكيلها (المقاومة الإسلامية في لبنان) في البدء بإطلاق عملية عسكرية من الحدود اللبنانية الجنوبية تحت مزاعم (مساندة غزة)، وبالتالي اشتراط وقف إطلاق النار من لبنان بوقفه في غزة. وتلك الوقائع أكدها حضور عبد اللهيان -وزير خارجية إيران- إلى لبنان منذ بداية عملية طوفان الأقصى. وانكشفت أهداف إيران باستغلال الجبهتين، غزة ولبنان، بعد تسريب الكثير من التقارير التي أكدت حصول مفاوضات بين الأميركيين والإيرانيين حول صفقات تصب في المصلحة الإيرانية، ومن دون إغفال نوايا العدو الصهيوني باستمرار الحرب، كان القبول بوقف إطلاق النار على الجبهتين عامل المساومة التي كانت إيران تستفيد منها في تلك المفاوضات.
إن تلك الحقائق، تساعدنا على وضع رؤية من زاويتين، وعلى الرغم من صعوبة تنفيذهما وليس استحالة التنفيذ، نعتقد أنهما تشكلان مدخلين أساسيين وضروريين، وهما:
أولاً: على الصعيدين اللبناني والفلسطيني:
-كان على المقاومة الإسلامية أن تستفيد من تجربة (المقاومة الوطنية اللبنانية) الجبهوية العابرة للمناطق والطوائف في مواجهة العدو الصهيوني. والاعتراف بمركزية المؤسسات العسكرية والأمنية للدولة اللبنانية، التي تنظِّم العلاقة بين المقاومة الشعبية المسلَّحة وأجهزة الدولة العسكرية، وهو الحل الذي يحمي وحدة الدولة اللبنانية.
-وأما على الصعيد الفلسطيني، مع مراعاة خصوصية القضية الفلسطينية، أن تقوم المقاومة الإسلامية في فلسطين، بعيداً عن العصبية الأيديولوجية الدينية، في سد فجوات التلاقي مع التيارات الوطنية الفلسطينية، من أجل توحيد القرار الفلسطيني للاستفادة من الدعم الدولي غير المسبوق، وكذلك الدعم العربي والإسلامي الشامل، الذي يتجه لمساعدة الفلسطينيين نحو بناء دولة فلسطينية قابلة للحياة.
ثانياً: على الصعيد الرسمي العربي:
لأن خطورة المشروعين الإلهيين، المشروع الصهيوني والمشروع الإيراني، أصبحت تشكل خطورة واضحة في الوعي الغربي والشرقي معاً، نرى أن العرب -بشكل خاص- هم المتضررون الأساسيون منهما، فعلى أرضهم تدور المعارك العسكرية، ومن أجساد أبنائهم تنزف الدماء السخية، ومن أرواح أبنائهم يدفعون ثمناً بالموت والقتل من أجل حروب الآخرين الغيبية، تقع على العرب كل أنواع المسؤولية في متابعة الإسهام في الوصول إلى حلول واقعية لوضع حد لكل من (إسرائيل) وإيران لإيقاف أكثر الجرائم بشاعة في التاريخ.
وهنا، ولأننا نعتقد أن الدول الكبرى هي التي وضعت اللبنات الأولى لقيام المشروعين معاً، وقاموا بمساندتهما في ظل غياب التأثير العربي، والرسمي منه بشكل خاص. وبعد أن أكدت الوقائع أن بعض النظام العربي الرسمي قد نمت له بعض الأنياب المؤثرة لشغل موقع على طاولة القرار، أصبح بالإمكان مخاطبة هذا البعض بأن يستخدم أنيابه من أجل تفعيل جدي للمتغيرات الدولية التي وعت أخيراً خطورة ما صنعت يداه في احتضان أفعى المشروعين الغيبيين ووعوا أخيراً أن أفعى المشروعين قامت بلدغهم جميعاً ومن دون استثناء، وسوف يكون اللدغ أشدَّ مرارة إذا لم يضع العالم بأكمله حدَّاً لتمدد المشروعين معاً.
قد تكون صورة ‏نص‏
All reactions:

5

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *