هناك شبه إجماع حول حتمية التغيير في العراق للخروج من حالة الفشل والانغلاق السياسي والتأزم المتصاعد، لكن التحدي الأكبر هو الضبابية حول كيفية التغيير ومدى التحول السياسي وبأي اتجاه، خاصة بالنسبة للقوى المعارضة للنظام الحالي.
وعلى الرغم من أن مفردة التغيير قد كثر تداولها مؤخراً من مختلف الفرقاء في العملية السياسية، إلا أن واقع الأمور يدل على هلامية هذا التغيير الذي تتحدد ملامحه حسب تطورات الصراع المستميت للاستحواذ على السلطة بين التيار الصدري والإطار التنسيقي الشيعي. فيرتفع سقف التغيير بارتفاع حدة الخطاب الثوري للصدر، وينخفض كلما تسهلت الأمور لتحقيق شروط الصدر، بينما تبقى القوى الوطنية المعارضة فاقدة للمبادرة وفي حالة انقياد وراء تصاعد الأحداث مكتفية باتخاذ المواقف الهشة بدون دعم أو تحشيد شعبي واضح. وبهذا ترتهن عملية التغيير الذي طال انتظار العراقيين لها بصراع بين قوى سياسية حاكمة هي جزء أساسي من النظام السياسي الفاشل نفسه.
وما يزيد من خطورة هذا الأمر هو عدم نضج النقاش في الفضاء العام حول التغيير المطلوب لمعالجة جوهر الأزمة المستمرة في النظام السياسي، بما لا يتجاوز الطرح المقتضب لمحاولات التعديلات الدستورية التي بادرت اليها القوى السياسية الحاكمة بعد احتجاجات تشرين 2019؛ومنها اللجنة التي شكلها مجلس النواب وفق المادة 142 من الدستور التي تتضمن آلية انتقالية ومؤقتة – تبقى نافذة لحين تحقيق أهدافها وتنتهي بمجرد إتمام العمل بها – لإجراء تعديلات شاملة للدستور عبر لجنة في مجلس النواب الذي يصادق على توصياتها بالأغلبية المطلقة، ثم يوافق عليها الشعب في الاستفتاء بأغلبية المصوتين مع عدم رفض ثلثي عدد المصوتين في ثلاث محافظات عراقية.وقد أعلنت هذه اللجنة انتهاء أعمالها بالتوافق على تعديلات «غير خلافية وتسهم في اصلاح العملية السياسية»، منها تقليل أعضاء المجلس، وتعديل تعريف الكتلة الأكبر لتسهيل تشكيل الحكومة، وإصلاح السلطة القضائية، وتعديل صلاحيات وانتخابات مجالس المحافظات والمحافظ، بينما لم تتفق اللجنة حول مواد خلافية خاصة تلك المتعلقة بالمادة 140 حول المناطق «المتنازع عليها».
كذلك شكلت رئاسة الجمهورية لجنة أخرى وفق المادة 126 التي تتضمن آلية دائمة – بكونها مادة أصلية في الدستور – لتعديل الدستور بعد موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب وموافقة الشعب عبر الاستفتاء العام، لكن بشرط عدم تعديل صلاحيات الأقاليم التي لا تكون داخلة ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية. وقد استكملت هذه اللجنة مقترحاتها التي شملت تشكيل مجلس الاتحاد وتحديد صلاحياته، وتوسيع صلاحيات رئيس الجمهورية، وتقليل عدد النواب، وتعديلات قضائية، ولطريقة تشكيل الحكومة،بينما لم تتطرق الى علاقة المركز بالإقليم. كذلك تضمنت مقترحات اللجنة صلاحية حل البرلمان من دون الحاجة إلى تصويت أعضائه، في مقابل قدرة البرلمان على سحب الثقة من الرئاستين وذلكمن أجل خلق نوع من التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
إن هذه التجربة في محاولة إصلاح النظام السياسي عبر إجراء التعديلات الدستورية من داخل منظومة الحكم قد أثبتت فشلها، من جهة بسبب عدم توافق القوى السياسية الحاكمة على متابعة إجراءات التعديلات الدستورية المقترحة، ومن جهة أخرى بسبب قصور مدى التعديلات المطروحة في تحقيق إصلاح حقيقي في النظام السياسي. فالسبب الجوهري في فشل النظام السياسي الحالي ليس عبر تسييس قرارات المحكمة الاتحادية لصالح طرف سياسي دون الآخر، أو في عدم وضوح تعريف الكتلة الأكبر لتشكيل الحكومة، أو حتى في صلاحيات مجالس المحافظات وانتخابهم للمحافظ، بل هو بالدرجة الرئيسة بسبب تغوّل سلطة البرلمان – ومن خلاله سلطة الأحزاب السياسية – على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية للدولة العراقية. القصور الأهم في النظام السياسي العراقي هو في السلطة التنفيذية التي هي فريسة لبرلمان منقسم يتخذ التوافقية والمحاصصة أساساً لتقاسم النفوذ على الحكومة، والعلة هي في الدستور العراقي الذي أعطى سلطة شبه مطلقة للبرلمان الذي تسيطر عليه أحزاب تعكس الانقسامات المتعددة في المجتمع العراقي، بينما تكون الحكومة ضعيفة ورئيس الوزراء شبه مشلول أمام القيود الدستورية للبرلمان وأحزابه المتحاصصة.
فالنظام السياسي الحالي يمنح مجلس النواب سلطات واسعة يهيمن فيها على الجانب التنفيذي من الدولة عبر انتخابه لرئيس الجمهورية، واشتراط حيازة ثقته على رئيس الوزراء، وموافقته على برنامج الحكومة والوزراء منفردين، وعلى تعيين وكلاء الوزارات والسفراء وأصحاب الدرجات الخاصة ورئيس أركان الجيش ومعاونيه ومن هم بمنصب قائد فرقة فما فوق، ورئيس جهاز المخابرات الوطني، ورؤساء الأجهزة الأمنية. وحيث يستطيع البرلمان إعفاء رئيس الجمهورية ومسؤولي الهيئات المستقلة وإقالة رئيس مجلس الوزراء وأي من الوزراء، إلا أن الطريقة الوحيدة لحل البرلمان هي عبر موافقة أغلبية أعضائه. أما السلطة التنفيذية الممثلة برئيس الجمهورية ومجلس الوزراء فهي ليست فقط مهددة بالإقالة من قبل البرلمان وانما ذات صلاحيات مشتتة ومقيدة؛ فرئيس الجمهورية منصبه شرفي بالدرجة الرئيسية وبصلاحيات شبه معدومة، بينما تكون سلطة رئيس الوزراء مقيدة على الوزراء فلا يستطيع إقالتهم إلا بموافقة البرلمان، وتكون عملية اتخاذ القرارات في المجلس عبر التصويت بموافقة الأغلبية أو بأغلبية ثلاثة أخماس أصوات الحاضرين في الموضوعات ذات الطابع الإستراتيجي. فعندما يكون الوزراء يمثلون الأحزاب في البرلمان حسب المحاصصة، يكون من الصعب على رئيس الوزراء محاسبتهم ولا يستطيع اتخاذ القرارات في مجلس الوزراء من دون موافقة الأحزاب في البرلمان.
إن هذا القصور في التوازن بين سلطة البرلمان والسلطة التنفيذية ليست حالة فريدة خاصة بالنظام السياسي العراقي فقط، بل هناك تجارب لدول عديدة عانت من مشاكل مماثلة– ولو بدرجة أقل شدة من الحالة العراقية – وسعت لعلاجها بدرجات مختلفة من النجاح. ولعل تجربة التعديل الدستوري الذي أنتج الجمهورية الفرنسية الخامسة في 1958 هي أكثر هذه التجارب دلالة، فشرعية نظام الجمهورية الفرنسية الرابعة (1946-1958) كانت قد تقوضت في أعين الناخبين الفرنسيين بحيث كان حتى السياسيين الذين دافعوا عن هذا النظام ينظرون اليه بمزيج من السخط واليأس. فقد كانت الأزمات الوزارية مستمرة (بمعدل حكومة كل ستة أشهر)،وهناك ضعف مزمن في المؤسسات السياسية الفرنسية التي أصابت سلطة الدولة بالشلل وأدت الى المشاكل في الجيش والمستعمرات والى الاضطرابات الاجتماعية واختلال الاستقلال الوطني. لقد حدد الجنرال ديغول – بطل تحرير فرنسا من النازية في الحرب العالمية الثانية – مكامن الخلل في الجمهورية الرابعة بأن الدستور أعطى للبرلمان سلطة أكثر من اللازم ما أدى الى ضعف السلطة التنفيذية وعدم استقرار الحكومة التي أصبحت تحت رحمة الأحزاب المتصارعة، لذلك كان الحل عنده هو عبر تقوية السلطة التنفيذية لتستطيع أن تحكم الدولة بفاعلية وتفرض الطاعة على كل المجاميع التي يمكن أن تقوض سلطة الدولة بما في ذلك الأحزاب والقوى المجتمعية الضاغطة، بل وحتى الجيش الذي كان خارج السيطرة ويهدد تماسك الدولة.
لم يتنازل زعماء أحزاب البرلمان المتنازعين عن سلطتهم بسهولة، بل اقتضى الأمر تمرد الجيش الفرنسي في الجزائر المُستعمَرة واحتماليات الحرب الاهلية لكي يقبلوا بعودة الجنرال ديغول الى الحكم الذي اشترط تغيير النظام السياسي من البرلماني الى شبه الرئاسي عبر تدعيم سلطة رئيس الجمهورية وتوسيع صلاحياته، فتم تغيير دستور البلاد من دون التصويت في البرلمان بل عبر الاستفتاء الشعبي المباشر حيث فاز بأغلبية اصواته الساحقة.
القصور المهم الثاني في النظام السياسي العراقي هو في العلاقة غير المتوازنة بين المركز والإقليم وبين المركز وبقية المحافظات غير المنتظمة في إقليم. وجزء من هذا القصور هو عبر خلل في تنفيذ فقرات الدستور العراقي، فالإقليم يتجاوز على العديد من الصلاحيات الحصرية للحكومة الاتحادية التي حددها الدستور مثل السيطرة على المنافذ الحدودية وتواجد القوات المسلحة للدفاع عن حدود العراق وإصدار الاقامات للأجانب وتنظيم السياسة التجارية. كذلك هناك أمور إشكالية في الدستور يستوجب تعديلها مثل موضوع «المناطق المتنازع عليها» والتي أثبتت التجربة العملية انها أزمة متفاقمة تُستخدم للابتزاز السياسي ولا يمكن حلها بما نص عليه الدستور الحالي عبر التطبيع والاحصاء ثم الاستفتاء، بالإضافة الى إزالة الغموض حول مشاركة الأقاليم في إدارة الجمارك وملفات الطاقة والمياه من حيث أنها أمور سيادية ولابد أن تكون من الصلاحيات الحصرية للحكومة الاتحادية خاصة في ظل دخول هذه الملفات في صلب الصراعات الإقليمية والدولية.وفي الوقت نفسه تشكل العلاقة اللامركزية المشوهة بين المركز والمحافظات أحد أوجه القصور المهمة في النظام السياسي الحالي، والذي ينبغي أن يعالجه مسار التغيير المطلوب عبر فك التداخل في الصلاحيات بين السلطة الاتحادية ومجالس المحافظة والمحافظين، فيتم تحديد صلاحية مجالس المحافظات لتكون رقابية وتخطيطية فقط، فيما يتم تفعيل صلاحية المحافظين التنفيذية بما فيها تعيين وإقالة كبار المسؤولين في المحافظات والمسؤولية الكاملة عن الملف الأمني.
إن تفاصيل الحلول المطلوبة لمعالجة القصور في النظام السياسي العراقي الحالي هي خارج نطاق هذه المقالة، إلا أنهمن المهم هنا تشخيص مكمن الخلل ولزوم تطوير الخطاب السياسي للتغيير من العناوين الفارغة التي يمكن تجييرها لخدمة مصالح سياسية ضيقة تحت غطاء الخطاب الثوري أو الشرعية الدستورية – وهو ما يحدث لحد الان عبر صراع التيار مع الإطار – الى مسار محدد يعالج المشكلة الجوهرية للنظام السياسي العراقي منذ 2003.
وفيما تتجه الاحداث نحو تشكيل حكومة انتقالية تقود الى انتخابات مبكرة بضمانات معينة على أمل تحقيق التغيير السياسي المنشود، ينبغي للقوى الوطنية أن تتبنى رؤية سياسية واضحة تتضمن تغيير النظام السياسي عبر التعديل الدستوري وفق المادة 142، وتستند على معالجة نواحي القصور في الدستور الحالي نحو تقوية السلطة التنفيذية وإعادة رسم العلاقة بين المركز والاقاليم على أسس اتحادية سليمة وبين المركز والمحافظات على أسس اللامركزية الفعالة. عندها يمكن للقوى الوطنية أن تدخل الانتخابات القادمة على هذا الأساس وتعمل على تعديل الدستور عند حصولها على التفويض اللازم من قبل الأغلبية، أو يكون المسار الآخر هو حل البرلمان وتفويض حكومة طوارئ تعمل على تنظيم مجلس تأسيسي لدستور جديد يؤسس لنظام سياسي جديد.
أما إذا استمرت القوى الوطنية في مواقفها الضعيفة والهامشية، فستظل القوى التي تتمكن من استثمار نقمة الجماهير على الأحزاب وعلى نظامها السياسي الفاشل، هي الصانعة للأحداث ورؤيتها للتغيير السياسي هي السائدة. وقد ينتهي الأمر في العراق بتغيير النظام الى رئاسي سلطوي بدون رقابة وبدون فصل حقيقي بين السلطات كما حدث مؤخراً في تونس.