نحن الأمة الوحيدة التي تقتل الأحياء دفاعًا عن الأموات – “الحياة هي الإرث الأعظم؛ فلنحميها قبل أن نحمي الموتى!”

“في زمن تُجل فيه الأمم الحياة، وتتسابق فيه الحضارات نحو المستقبل، نقف نحن عند بوابة الموت، نحرس المقابر ونرفع رايات الماضي، غير مبالين بحاضرنا المهدور ومستقبلنا المجهول. نحن الأمة التي تدفن أحلام الأحياء دفاعًا عن أساطير الأموات. أمة اختارت أن تكون رهينةً لماضٍ صنعه أناس رحلوا، بينما يُسحق حاضرها تحت وطأة الجهل والتعصب.”

في كل مجتمع، تشكل الذاكرة الجماعية جزءًا مهمًا من الهوية، ولكننا حولنا ذاكرتنا إلى قيدٍ خانق. نحن لا نحترم الموتى بقدر ما نقدسهم، حتى باتت مقابرهم أولويةً تتفوق على حياة الأحياء. هذا التناقض الصارخ يعكس أزمة فكرية وثقافية عميقة تضرب جذور مجتمعاتنا. فالتمسك بالماضي، الذي يُفترض أن يكون مصدر إلهام، أصبح لعنةً تُلقي بظلالها على حاضرنا ومستقبلنا.

لقد أصبح الدفاع عن الأموات أداة تُستخدم لتبرير أخطائنا، وقمع كل من يجرؤ على مساءلة التاريخ أو البحث عن مسارات جديدة. كلما برز صوت يدعو للتغيير، ارتفعت الاتهامات بالخيانة والتمرد على “الإرث”. نُكرم الأموات برفع شعاراتهم، بينما ندفن الأحياء تحت ركام الجمود والتقليد. فهل هذا هو الوفاء؟ أم أننا نحمي أنفسنا من مواجهة مسؤولية البناء الحقيقي؟

انظروا إلى ساحاتنا العامة، حيث التماثيل والرموز التاريخية تعلو فوق احتياجات الإنسان اليومية. ننفق مليارات على إحياء مناسباتٍ تاريخية بينما تعيش شعوبنا في فقر وجهل. نُعلِّم أطفالنا أن التاريخ مقدس، لكننا لا نُعلمهم كيف يصنعون مستقبلًا مشرقًا. نضع الماضي على عرش لا يمس، ونُجرد الحاضر من قيمته. أي أمة هذه التي تختار أن تكون ظلالًا لأجدادها؟

الأمر لا يقف عند حدود الفكر والثقافة، بل يتعداه إلى السياسة والمجتمع. الزعماء والقادة يستخدمون الماضي كذريعة لقمع المعارضين وتثبيت سلطتهم. تُثار النزاعات الطائفية والعرقية بناءً على صراعات تاريخية مات أصحابها منذ قرون، بينما نحن ندفع ثمنها دمًا وألمًا. كأننا ندافع عن الأموات ليس لأنهم بحاجة لذلك، بل لأننا نفتقر للشجاعة لإيجاد طريق جديد.

إن احترام الأموات لا يعني التضحية بالأحياء. الاحترام الحقيقي يكمن في التعلم من أخطائهم وإنجازاتهم، وتوظيف ذلك لبناء واقع أفضل. الأمم العظيمة لا تبني أمجادها على قبور الماضي، بل تصنعها بأيدي الأحياء. نحن بحاجة إلى ثورة فكرية تنزع القدسية الزائفة عن التاريخ وتعيد الحياة إلى محور الاهتمام.

آن الأوان أن نكسر قيود الماضي ونواجه الحقيقة: حياة الإنسان أثمن من أي ذكرى أو شعار. لا يمكننا أن نبني مستقبلًا إذا بقينا أسرى لماضٍ يمتص طاقاتنا ويقتل طموحاتنا. فلنتوقف عن قتل الأحياء دفاعًا عن الأموات، ولنبدأ في بناء حياة تليق بإنسانيتنا. المستقبل لن ينتظرنا طويلاً؛ الخيار بين أيدينا: أن نعيش للأحياء أو نموت دفاعًا عن من رحلوا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *