ها قد مضى عام وأسبوع بالتمام والكمال على انطلاق قمة الرياض العربية الإسلامية المشتركة بنسختيْها الأولى والثانية منذ 11/11/2023، فلا حصار محكم فُتحت كوّة ـ ولو صغيرة ـ في جداره الفولاذي، ولا جائع يتضوّر جوعاً لدرجة الاحتضار حظي بلقمة تسدّ رمقه، ولا عطشان حظي بنقطة ماء، ولا جريح وجد ما يُضمّد جراحه، ولا مريض وصلته حبّة دواء، وبقي الحال على ما هو عليه في قطاع غزة النازف، ينتظر الغوث فقط من رب العباد، لا من العباد الذين كبّلوا أنفسهم بوهم الأصفاد.
والحقّ يُقال أن هذا المؤتمر من حيث حفاوة الاستقبال، ورفاهية الاستضافة والإقامة التي فاقت السبع نجوم، وما وفّره من طيب طعام وشراب، وما ناله المؤتمرون من اهتمام ورعاية طبّية فاق الخيال.. وكذلك ما أتاحته قاعة المؤتمر من تنظيم خرافي وتقنيات عالية الجودة، وما نالته طواقم الإعلام من تسهيلات ووسائل اتصال مجانية مذهلة.. كلّ ذلك وسواه يعكس جهوداً تنظيمية وإدارية مخلصة، ويُدلل على حرص كبير على توخّي النجاح التاريخي المنقطع النظير، يُحسب للمملكة العربية السعودية، ويستحق إجماع الرؤساء في كلّ خطاباتهم المتتالية على التعبير بإطناب عن بالغ الشكر والتقدير… لكن السؤال المحرج ماذا جنت غزة والشعب الفلسطيني وشقيقه اللبناني بعد أن انفض هذا الجمع، وعاد كلّ وفد لدياره سالماً وربّما غانماً؟!
كما أنه والحقّ يُقال أيضاً، أن كلّ الزعماء المؤتمرين قد ألقوا خطابات تستحق حرارة التصفيق، شخّصوا من خلالها رغم قِصر مدّتها المتاحة مكامن الداء والمخاطر التي تهدّد الأمتين العربية والإسلامية منذ زمن طويل، ويعرفها الكبير والصغير.. وقد أفضت إلى صياغة بيان عن المؤتمر بلغة جزلة وقويّة “حيل” يُشكر عليه كلّ من ساهم في صياغته.. لكن العبرة تكمن دوماً في الدواء وكيفية استخدامه بطريقة ناجعة لا في تشخيص الداء، وهو ما تتوق له الأمة بشغف تاريخي ممتد لعشرات السنين، رغم توفّر الإمكانات البشرية والمادية في أمة المليارين، خير أمة أخرجت للناس.
ربما من حسن حظ الغزيين أن “الكيان” لم يحرمهم من الحياة والطعام والشراب فقط، بل حرمهم كذلك من الكهرباء ومشاهدة التلفاز، كي لا يموتوا حسرة وكمداً على أمة بُحّت أصواتهم وهم يصرخون: “وينكم يا عرب.. وين المسلمين، وين البشر.. وين ملوك العرب.. وين الرؤساء.. وين الزعماء.. وين النخوة.. وين الأمم المتحدة.. وين العالم”.. ولم يعلموا أن بعضهم منهمك حتى النخاع بنقاش “اليوم التالي” بعد “حماس” في غزة، وبعد “حزب الله” في لبنان. وكأن “الكيان” المتعثّر والفاشل في تحقيق أي من أهدافه قد حقق “النصر المطلق” الذي لن يحققه باعترافات قادته العسكريين قبل السياسيين، وكل ما حققه هو إبادة المدنيين العزّل وتدمير البنى التحتية المدنية، وهو ما يُعتبر عار على كلّ عسكري يحترم شرف عسكريّته.
وكي نكون منصفين، ولا نُجاري المجرم الأفّاك اللّعّان “إيدي كوهين” الذي صبّ جام غضبه ونفّس احتقانه الدّفين لفشل كيانه الغارق في رمال غزة العزة وأطراف قرى لبنان العصيّة، والذي شتم المؤتمر والمؤتمرين، وهذا ديدنه ودينه في كل إطلالاته المشؤومة على شاشات الفضائيات العالمية وحتى العربية مع الأسف.. فإن موقف تركيا في أعقاب المؤتمر المتقدم، وطرح ماليزيا بطرد “الكيان” المارق من الأمم المتحدة، وكثير من مواقف الزعماء العرب والمسلمين، لو تمّت ترجمتها عمليّاً على أرض الواقع، ستعيد للعرب والمسلمين مكانتهم وهيبتهم التي يستحقّون، وهم أهل لها، وستمثّل بدايات استيقاظ هذا المارد وخروجه من القمقم، وهو ما حذّر منه كيسنجر حين قال لقادة هذا الكيان: “اسلّمكم أمة نائمة لو استيقظت لانتزعت في عام واحد ما فَقَدته في مئة عام”.. ويبقى كلام الرسول الكريم الفيصل الذي لا قول بعده: “الخير في أمتي إلى يوم الدين”، وعندها لا عزاء للمتخاذلين والمتصهينين والخوالف عندما تقع الواقعة المحتومة وتزول الغُمّة عن الأمّة.