د. يوسف بناصر
باحث في قضايا النقد الفكري والتجديد وعضو مجلس إدارة منصة مفكر
تتأسس بعض المجتمعات على الأساطير، وبعضها يغوص بعيدا في أوهام قومية أو دينية أو ثقافية لخلق هوية متميزة، ولا يتم إدراك خطورة هذه الأوهام إلا بعدما تتحول إلى خطاب سياسي قوي وحركي، لتخوض به معارك الانتخابات، وبعدها الحروب المدمرة، سواء داخل التركيبة الاجتماعية الواحدة أو ضد مجتمعات أخرى.
فتاريخ الإمبراطورية الفارسية والرومانية والنابليونية والنازية واليابانية ثم الدولة الصهيونية وغيرها، تذكرنا كل مرة بأن الإنسان يضعف أمام الأساطير التي تنفخ فيها السياسة الروح، وتجعلها بالونا قادرًا على حمل أحلام بعض الشعوب المتأثرة بها، كما قد يتحول إلى قنبلة متحركة تنفجر في أي سماء وفوق أي أرض، دون اعتبار لمدى التقدم أو التخلف الذي تعيشه المجتمعات التي تنمو على أرضها هذه الأفكار والأحلام.
فـ.و.م.أ التي تأسست نواتها الأولى 1776م، كانت متأثرة بقادة حرب الاستقلال ضد بريطانيا، وكانت خلفيتهم الدينية بروتستانتية، وأغلبهم من المهاجرين من دول الشمال الأوربي بحمولاتهم السياسية والفلسفية والتنويرية؛ مما أثر بشكل أساسي على الإعلان الدستوري الذي أمسى محطة بارزة وحاسمة في التاريخ الأمريكي إلى اليوم.
وما يسترجعه الرئيس المنتخب دونالد ترامب من رؤى سياسية في خطاباته ومواقفه إنما هو نابع من التاريخ الحقيقي؛ لما تخفيه الثقافة السياسية الأمريكية منذ بداياتها، تاريخ أسطوري كبر على صيرورة انتصارات الآباء المؤسسين، وما خلفوه من ثقافة ومواقف سياسية. تسيج الهوية الأمريكية ضد مخاطر القوميات الجديدة الوافدة وتحديات ثقافاتها العبارة للحدود، تلك الثقافة التي قد تخلخل أية بنية سبق تعبئتها وإخضاعها لمنظومة قيم وتقاليد وروابط اجتماعية وعاطفية.
وفي هذا الصدد يقول هنتنغتون في مقال له نشر في مجلة FPعدد مارس- أبريل 2004م: في هذه الحقبة الجديدة فإن التحدي الأكثر مباشرة وخطورة الذي يواجه الهوية التقليدية ل.و.م.أ يتأتى من الهجرة الهائلة والمستمرة من أمريكا اللاتينية، وثقافة و.م.أ الأنجلو بروتيستنية، والعقيدة التي أنجبتها، تعرضت في العقود الأخيرة من القرن العشرين لهجوم شعبية عقائد التعددية الثقافية والتنوع في الدوائر الفكرية والسياسية، ورافق ذلك سواد هويات الجماعات القائمة على الجنس أو الإثنية أو النوع على الهوية القومية، وتواجه الهوية القومية ل.و.م، تحدي قوى العولمة، كما تواجه تحدي الاحتياجات التي تطرحها العولمة بين الشعوب لهويات الدم والمعتقد.
ويتم صامويل تفسيره ذاك بطرح سؤال أساسي على حد تعبيره: هل ستبقى و.م دولة واحدة بلغة قومية واحدة وثقافة أنجلو بروتيستنتية أساسية؟ ليعزز سؤاله بتوجيه مرتبك للقارئ له، وبتنبيه يعتبره مهما لشعبه يقول فيه: إن الأمريكيين -بتجاهلهم هذا السؤال- إنما يخاطرون بتحولهم في نهاية المطاف إلى شعبين مختلفين بثقافتين مختلفتين، ثقافة أنجلوساكسونية وأخرى لاتينية، ولغتين: الإنجليزية والإسبانية.
وحتى لا نؤسس مقالتنا هذه على مضامين فكر صاحب كتاب: من نحن؟ على تحديات الهوية القومية الأميركية، ونستند كذلك إلى الهواجس التي أقلقت الأستاذ آلان بلوم أ. الفلسفة السياسية بجامعة شيكاغو التي عبر عنها في مؤلفه: عقم العقل الأمريكي، إذ تساءل فيه بدوره عن حالة الهشاشة التي يعرفها المجتمع والثقافة الأمريكية بقوله: كيف يمكن إذا تفسير السهولة التي تجذرت في أرضنا، أفكار تتناقض مع المثال الأمريكي، بعد أن تحدث بالخصوص عن الفلسفة الألمانية وكيف احتوت الثقافة الأمريكية، هذه الإشكالات والتساؤلات لم تكن لتظهر بهذا الشكل الصريح والمباشر في أطروحات كتبت بأنامل أساطين الفلسفة والسياسة الأمريكية، لولا أنها تشكل بؤرة توتر ومصدر قلق في المجتمع ووسط دوائر القرار والتفكير، وتحتضن مخاطر قد تؤدي إلى انهيار النموذج الأمريكي المفعم بالكثير من المثالية.
إن الحديث عن بعث مجتمع متعدد الثقافات يتمتع فيه الجميع بنفس الحقوق، وفي بوتقة يحتضنها العلم والحلم الأمريكي يعد مسألة مشوشة في ذهن اليمينيين الذين يكدون من أجل الحفاظ على الخلفية التاريخية التي اجتمع قادة الاستقلال من أجلها، وصامويل يؤكد على شيء من هذه الحقيقة بقوله: إن على الأمريكيين أن لا يسمحوا لهذا التغير بأن يحدث، إلا إذا كانوا مقتنعين أن هذا البلد الجديد سيكون بلدا أفضل، وأنه ليس هناك حلم أمريكي لاتيني، إن هناك حلما أمريكا خلقه المجتمع الأنجلو بروتستنتي، المكسيكيون الأمريكيون سيشاركون هذا الحلم، وذاك المجتمع إذا حلموا بالإنجليزية.
هذا الادعاء الذي يلخص الثقافة الأمريكية فيما قدمه بعض المنتمين للمجتمع، وحصر دور البقية في كونهم يشكلون تهديدا بما يحملونه من موروثات ثقافية أو يجب عليهم أن يتخلصوا من كينوناتهم، وكل تاريخهم المتعدد يسمح لهم بالمشاركة في الحلم الأمريكي، ويعد هذا مسألة خطيرة، واليوم سنرى بأنها لم تبق ضمن ترف الفكر وهواجس مفكري المعاهد، بل أمست برنامجا سياسيا يدافع عنه البعض وينتصر له، بل خطابا مباشرا يتبناه الرئيس المنتخب بكل ثقة واعتقاد.
ولكي نفهم جزءا من سياسة اليمين ضد المهاجرين -وخصوصا من اللاتينيين- فلا بد من قراءة توقعات بعض خبراء الدراسات المستقبلية والسياسية، تلك التوقعات التي أشار إلى بعضها هنتنغتون؛ إذ يورد مثلا توقعات الأستاذ شارلز تراكسيلو من جامعة نيومكسيكو التي يقول فيها: إنه بحلول عام 2080م، فإن الجنوب الغربي و.م.أ، والولايات الشمالية للمكسيك ستشكل جمهورية الشمال، وهناك العديد من الكتاب ممن بدأوا يشيرون إلى الجنوب الغربي للولايات المتحدة بإضافة إلى شمال المكسيك بكلمة مكسيك أمريكا أو أمكسيكا أو مكسفونيا.
ويتسمر صامويل بالقول: إنه يمكن على سبيل المثال قراءة ما يحصل في ميامي، وهي أكبر مدينة ذات تجمع لاتيني في و.م.أ الخمسين، وإسقاطه على المدن التي ستصبح مثلها في المستقبل، فعلى مدى ثلاثين سنة، أسس المتحدثون بالإسبانية سيطرتهم على كل منحى من مناحي الحياة في هذه المدينة، بحيث إنهم غيروا بصورة جذرية تشكيلها.
إن لثنتة أو هسبنة ميامي هي ظاهرة لا سابق لها في تاريخ المدن الأمريكية، وهذه الولاية أصبحت من أهم المدن المستقطبة لرجال الأعمال اللاتينيين والكوبيين، بالخصوص الهاربون من حكم فيديل كاسترو. وحول المحرك الاقتصادي الكوبي ميامي إلى محرك اقتصادي دولي. وقد حول هذا البروز ميامي إلى مدينة لاتينية يقف الكوبيون في سدة قيادتها، تتمتع بثقافتها واقتصادها الخاص بها.
وبحلول عام 2000 م، لم تكن الإسبانية هي اللغة المحكية في غالبية منازل المدينة فحسب، بل أصبحت اللغة الرئيسية للتجارة والأعمال والسياسة، وأصبحت وسائل الإعلام والاتصال تتحول إلى اللغة الإسبانية بصورة متزايدة، وأسس الكوبيون، كذلك سيطرتهم على السياسة؛ فبحلول عام 1999، كان رئيس بلدية المدينة والمحافظ ورئيس الشرطة، والمدعي العام للولاية في محافظة ميامي ديد، فضلا عن ثلثي النواب الأمريكيين المنتخبين عن ميامي ونحو نصف نوابها الولائيين من أصل كوبي يتحدثون الإسبانية.
وينظر صامويل إلى الكثافة الديمغرافية لبعض الأقليات على أنها تشكل خطرا، فمثلا السيطرة الكوبية واللاتينية على ميامي جعلت الأنجلوسكسونية -كما والسود- تشعر بأنها أقليات خارجية يمكن تجاهلها بصورة غالبة، وكان أمامهم واحد من ثلاثة خيارات: فبوسعهم قبول وضعهم كأقلية تابعة خارجية أو بوسعهم تبني أخلاقيات وعادات اللاتينيين ولغتهم والانصهار في الجالية اللاتينية، والانصهار الثقافي المعكوس، كما وصفه الباحثان الخاندرو بوركيز وأليكس ستيبيك أو ترك ميامي وهو ما اختار القيام به 000 140 منهم في الفترة ما بين 1983 و 1993م،وقد تم التعبير عن هذا الرحيل الهائل في أحد ملصقات السيارات الذي يقول: هل لآخر الأمريكيين الذين يتركون ميامي أن يحضر معه العلم الوطني؟