أنقاض غزة.. بين أصوليتينعندما يتحالف التطرف ضد الإنسان —-
أ.د.على أحمد جاد بدر
أستاذ العلوم السياسية
عميد كلية الدراسات الأفروأوروبية العليا
في شوارع غزة المدمرة، وبين صرخات الأمهات وأنين الأطفال، تتراءى الحقيقة القاسية أن الشعب الفلسطيني يُعلق مجددًا بين شقيّ الرحى؛ أصوليةٍ إسلاميةٍ مسلحة تتحدث باسمه دون تفويض، وأصوليةٍ يهوديةٍ عنصرية تمارس بحقه أبشع الجرائم باسم الدين والتاريخ.
لقد وجدت بعض الحركات الإسلامية المتشددة، في القضية الفلسطينية منبرًا لتكريس خطابها العقائدي، متجاوزةً بذلك البعد الوطني التحرري الجامع ، وفي حين أن مقاومة الاحتلال حق مشروع، فإن تحويل غزة إلى ساحة مغلقة لحرب عقائدية لا تضع في حساباتها الكلفة الإنسانية، هو تفريط بالمسؤولية الأخلاقية والوطنية.
لقد اتخذت هذه الحركات من الدين غطاءً لمشروعها السياسي، ومن الشعب الفلسطيني وقودًا لمعركة لا يبدو أن لها أفقًا واضحًا ، والقصف الإسرائيلي الهمجي يُقابَل بإطلاق صواريخ بدائية تؤدي في الغالب إلى تصعيد جديد، دون تحقيق إنجاز حقيقي بل على العكس تُفاقم المعاناة الإنسانية، وتُدمَّر البنية التحتية، ويُقضى على أمل أي تعافٍ اقتصادي أو اجتماعي في القطاع.
وعلى الجانب الآخر، تقوم دولة الاحتلال الإسرائيلي بقيادة أحزاب صهيونية يمينية وأصولية، بتبرير عدوانها على غزة من خلال خطاب ديني توراتي، يعتبر الفلسطينيين دخلاء على أرض الميعاد، ويمنح الدولة حقًا مقدسًا في تطهير هذه الأرض من سكانها الأصليين ، وقد ساهم تصاعد نفوذ التيارات الدينية اليهودية في شرعنة القتل وتدمير المنازل والمدارس والمستشفيات.
وما نشهده في غزة ليس فقط صراعًا جيوسياسيًا، بل أيضًا صراع أيديولوجي بين قراءتين متطرفتين للدين، تتعاملان مع الإنسان كأداة أو كخسارة هامشية في سبيل تحقيق نصر إلهي موهوم.
وبين الأصوليتين.. ضاعت غزة ، فالنتيجة واحدة شعب محاصر، أطفال يُقتلون، أحلام تُهدم، ومستقبل يُسرق بين مطرقة الأصولية الإسلامية التي تتحدث بلغة المقاومة دون مشروع وطني شامل، وسندان الأصولية اليهودية التي ترى في الفلسطيني عدوًا أبديًا ، وتتهدم غزة وتتحول إلى أنقاض.
إن ما تحتاجه غزة وفلسطين كلها، ليس مزيدًا من الخطابات الدينية المتشددة، بل مشروعًا وطنيًا تحرريًا عقلانيًا يُعلي قيمة الإنسان، ويقاوم الاحتلال دون الانجرار إلى مستنقعات الأدلجة الدينية ، كما يحتاج العالم إلى شجاعة في فضح الأصولية اليهودية في إسرائيل التي تتخفى خلف الديمقراطية ، بينما تمارس أبشع أشكال الإبادة بحق الشعب الفلسطينى الأعزل.
والأمل يكمن في بزوغ خطاب جديد، يُخرج غزة من بين أنقاض الأصوليتين، ويعيدها إلى حضن الإنسانية.


