
إن أنجع السبل للتفكير بواقعية أكبر بالمشروع الوطني والطموح المجتمعي، لا تحصل إلا بالاستناد إلى مرجعية نظرية حقيقية منفتحة على تحديات العصر الجديد، ومتطلبات الوطن والمواطن. ففي ظل هذه المعارف التي تتولد اليوم من رحم المعطيات الواقعية، يمكن أن نجد المفاتيح المناسبة لتركيب تصورنا القادر بدوره على ترجمة تطلعاتنا لمغرب الغد.
وقبل ذلك نرى، أن التفكير في الإصلاح والعدالة الاجتماعية، يقتضي وجود أحزاب سياسية وطنية، همها قضايا الوطن والشعب، بعيدا عن ولاءات الخارج و المصالح الضيقة. والجماعات الإسلامية واليسار الراديكالي، أصبحوا غير قادرين على البناء أو تقديم نقذ ذاتي شجاع، فكانت النتيجة إنتاج أنصاف مشاريع وأنصاف سياسيين وأنصاف قيادات، وبذلك فهم يبنون كل شيء بشكل ناقص.
الواقع اليوم، بحاجة إلى مزيد من استيعاب وتمثل الرؤية الملكية للعمل السياسي الواقعي بعيدا عن المهاترات والبرامج السياسية الكاذبة والخرجات البهلوانية لبعض القيادات. التركيبة الحزبية تقتضي بدورها تحليلا دقيقا وفهما خاصا، ومواصلة الجهد والعمل دون كلل، لتجاوز غموض المفاهيم التي حالت وما فتئت تحول بينهم وبين الانخراط الفاعل في العمل السياسي الوطني الجاد.
الأمر الذي يساهم في تهيئة الشروط المساعدة على ميوعة الفعل السياسي، وانتشار الفساد والريع والمحسوبية، بعيدا عن المرامي التي سطرناها لوطننا منذ عقود طويلة، الكثير من المنتخبين السياسيين لا يشتغلون من أجل قضايا البلاد بل من أجل أحزاب كرتونية وتجمعات فاسدة باسم العمل السياسي، أساءت لنفسها وللسياسة ولمستقبل وطن.
وإذ نؤكد على أهمية العناية بترسيخ القوانين ومحاربة الفساد والمشاركة في الانتخابات من أجل قطع الطريق على بهلوانات السياسة، وانتخاب رجالات الوطن الأوفياء، من أجل تجاوز المرحلة الحساسة من تاريخ المغرب الحديث، ومواكبة المشاريع الملكية المستقبلية، وأيضا استجابة للتحديات الإقليمية والدولية.
ما حصل ويحصل، جعلنا نكتشف هشاشة الممارسة السياسية داخل الأحزاب، وأنها في مجملها، صارت خارج المشاريع الوطنية، وأنها لم تعد قادرة على مجاراة الواقع الحقيقي للمغرب الحديث، وعليه فإنها مطالبة اليوم بتقديم نقد حقيقي للذات، كما أنها بحاجة لفترة نقاهة إما ان تجدد دماءها أو تموت وتختفي للأبد.
قيم التحديث والعصرنة والتقنية ومؤسساته وروافعه النظرية في مجتمعنا وثقافته، أصبحت تمثل قيمة المشروع السياسي الحداثي في استناده أولاً وقبل كل شيء إلى مقدمات العمل على تطوير العقلية والأرضية الفكرية الاسثمارية، وأيضا فتح آفاق التطور والبناء في شتى المجالات. ذلك أنني أعتبر أن الدفاع عن المشروع السياسي الوطني يعني الاحتكام إلى سلطة العقل والنقد والفهم الحقيقي لواقع الأحزاب والشخصيات المنتخبة.
ولهذا السبب نواصل الدفاع عن أهمية الاختيارات سواء داخل الأحزاب أو من خلال الانتخابات من أجل اختيار رجالات دولة وطنيين لقيادة البلاد في المرحلة المقبلة، لأنها تملك، أكثر من غيرها، القدرة على إسناد مشاريع الوطن وتنفيذها، وتطوير العمل السياسي الحقيقي، وإعادة بناء الأحزاب السياسية من الداخل وتنقيتها من الفاسدين و المتطفلين.
لقد ظل العمل الحزبي والسياسي في مجتمعنا عبارة عن جملة من البرامج المصطنعة وغير حقيقية ووعود كاذبة، ولم يتحول إلى فعل واقعي موصول بعمق تربتنا وطموحنا، وذلك لأن استبعاد عمليات استنباته الحقيقي بالجرأة والحسم اللازمين، لذلك عطَّل عملية البناء الذي نتحدث عنه، وما يزال يعطل إمكانية تحويل العمل السياسي من مشروع إلى فعل من أفعال الممكن.
يتحقق ذلك، حين ينتفض المجتمع ويعلن عن مواقفه اتجاه تجار الوطن والدين، وتجار القضايا، والرأسماليون الجشعون، ويقول كلمته من خلال الاقتراع، لانتخاب رجالات دولة حقيقيون من أجل مغرب الغد. لا نفكر هنا في موضوع ترسيخ متطلبات الإصلاح السياسي بالطريقة التي أصبحت تتداول بها الأحزاب السياسية تدبير المرحلة في الأيام الماضية، إذ يتم الربط بين القوانين المقترحة و المصالح الضيقة فقط، وليس خدمة للوطن والمواطنين.
وفي سياق ملابسات الصراع الدائر اليوم بين الأحزاب السياسية فيما بينها أو مع الدولة، فإننا نتحدث عن الإصلاح السياسي الحقيقي لمغرب معاصر، في أفق الوصول أولاً وقبل كل شيء إلى حل إشكالية التأخر العام السائد، ونطرحه لمواجهة مختلف صور الاستبداد السياسي والتسيب الحاصل، باعتبار أن معاركنا الإصلاحية تفترض أن المتغيرات الجارية اليوم في بلدنا بما لها وما عليها تندرج في الأفق نفسه، أفق مواصلة العمل السياسي الوطني بالعمل الهادف إلى تحقيق توافقات حقيقية مع الرؤى والمشاريع الملكية، وطموح شعب، قال عنه الراحل الحسن الثاني، شعب التحدي



