
بقلم: الأستاذ الدكتور قيس عبدالعزيز الدوري
عضو المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
بوصفي مؤرّخًا مسلمًا معتدلًا، قضيت عقودًا أدرس تاريخ الأديان، وأتتبّع مسارات الكنائس والمجتمعات المسيحية عبر القرون، وأفكّك الوثائق التي صاغت علاقة الشرق بالغرب، فإنّي أنظر إلى زيارة البابا إلى لبنان بعين لا تُشبه القراءة السطحية المعتادة.
لقد قرأت المسيحية قراءة الباحث عن الحقيقة، لا قراءة الهوى، واطلعت خلال سنوات طويلة على خفايا الكنيسة وطبقات تاريخها المتراكمة، وتتبّعت عبر المصادر والمخطوطات تلك الممرات العميقة في الفاتيكان حيث تُحفَظ الأسرار اللاهوتية والسياسية التي لا يعرفها كثيرون.
وأحمل منذ سنوات أمنية صادقة بزيارة الفاتيكان والدخول إلى تلك المساحات التي تختزن ذاكرة الكنيسة. ولذلك، فإنّي أقرأ زيارة البابا إلى لبنان من زاوية المؤرّخ العارف بثقل اللحظة ومعنى الرسالة.
إنّ زيارة البابا ليست عملاً رعويًا عابرًا، بل لحظة تاريخية تتجاوز حدود البروتوكول. فهي تأتي في وقت يقف فيه لبنان على أخطر مفترق طرق منذ قرن، في ظل انهيار اقتصادي، وتفكك اجتماعي، وانعدام ثقة شامل. البلد الذي شكّل مختبر الشرق الأخير للتعايش بين الإسلام والمسيحية يكاد اليوم يفقد هويته ورسالة وجوده.
لماذا لبنان؟ ولماذا الآن؟
يعرف المؤرّخ أن اختيار المكان والزمان في تحركات الفاتيكان لا يخضع للصدفة. لبنان اليوم هو آخر مساحة حيّة تجمع الإسلام والمسيحية في صيغة واحدة، وإذا انهار هذا النموذج فسيسقط معه آخر جسر للعيش المشترك في الشرق.
من هنا نفهم دلالة الزيارة:
العالم لا يريد خسارة لبنان… ولا خسارة رسالته.
رسالة تطمين… ورسالة شراكة
يحمل البابا رسالة واضحة للمسيحيين المهددين بالهجرة والقلق، مفادها أنّ حضورهم في الشرق ليس تفصيلاً، وأنّ لبنان، على ضعفه، لا يزال بيتهم التاريخي.
لكن الرسالة الأعمق — وهذا ما يفهمه المؤرخ قبل غيره — موجّهة للمسلمين أيضًا:
أنّ الشراكة هي الضمانة الوحيدة لاستمرار لبنان، وأن مستقبل هذا البلد لا يقوم على الانقسام، بل على التلاقي.
رسالة سياسية غير معلنة
ورغم الطابع الروحي، فإن الزيارة تحمل نقدًا ضمنيًا للطبقة السياسية اللبنانية، تلك التي قادت البلاد إلى هذا الانهيار الشامل.
إنّ البابا يذكّر الجميع بأن الدولة لا تُبنى بالطوائف، ولا تُدار بالمحاصصات، بل بثقافة المسؤولية والإصلاح.
وهي رسالة واضحة:
لن ينقذ الخارج لبنان إن لم ينقذه أبناؤه أولًا.
وجه لبنان الحقيقي… الإنسان قبل الطائفة
الذي يجب أن يكون:
لبنان الإنسان، لا لبنان المتاريس.
لبنان الذي تُقاس قيمته بالكرامة الإنسانية، لا بالانتماء الطائفي.
فالخلل في لبنان ليس اقتصاديًا فقط، بل أخلاقي وإنساني قبل كل شيء.
رسالة إلى المنطقة بأسرها
يدرك الفاتيكان أن سقوط لبنان لن ينعكس على اللبنانيين وحدهم، بل على الشرق كلّه. فسقوط نموذج التعايش في لبنان سيؤدي إلى إعادة إنتاج خطاب الصراع الديني في المنطقة. ولذلك جاءت الزيارة لتقول:
إن إنقاذ لبنان مسؤولية عربية وإقليمية ودولية مشتركة.
واخيراً أقول هو نداء اللحظة الأخيرة
من موقع المؤرّخ الذي يعرف قيمة اللحظات الفاصلة، أرى أنّ زيارة البابا ليست حدثًا عابرًا، بل نداءً أخيرًا لبلد يتأرجح بين الحياة والانهيار.
نداء إلى اللبنانيين كي يتمسّكوا بما تبقّى من رسالتهم التاريخية قبل أن تتحول إلى ذكرى.
ونداء إلى العالم كي لا يسمح بانطفاء الضوء الأخير في الشرق.
لبنان — رغم جراحه — لا يزال قادرًا على النهوض، إذا تذكّر أنّ وجوده رسالة قبل أن يكون دولة، وأنّ رسالته أكبر من أزماته، وأعمق من صراعاته، وأعلى من كل مَن حاولوا أن يحجبوا نوره