اخبار الأحواز العربيةاخبار العراق
أخر الأخبار

لماذا اختارت إيران مكران؟الدوافع العسكرية والبحرية والأمنية لنقل مركز القوة

الأستاذ الدكتور قيس عبد العزيز الدوري
عضو المنتدى العراقي للنخب والكفاءات

عبر التاريخ، حين تشعر الدول بأن عواصمها لم تعد آمنة، تبدأ رحلة البحث عن “الملجأ الجغرافي الأخير”. الأمويون انتقلوا من دمشق إلى حوران، والعباسيون فرّوا من بغداد إلى سامرّاء، والقاجار تخلّوا عن أصفهان واتجهوا إلى طهران. حتى الإمبراطوريات الفارسية القديمة، عندما ضاقت الهضبة الداخلية بتهديدات الروم والقبائل، انتقلت إلى المدائن بحثًا عن حماية أعمق. واليوم تُعيد الجمهورية الإسلامية إنتاج هذا الإرث التاريخي ذاته، ولكن بوجه جديد، فطهران – التي كانت يومًا قلعة الثورة – لم تعد بالنسبة للقيادة الإيرانية مكانًا يُطمأن إليه.
ذلك الخوف المتراكم لم يأتِ من فراغ. الداخل الإيراني يتآكل تحت وطأة الاحتجاجات، والأزمات الاقتصادية، وتململ القوميات المتعددة، وتراجع الثقة الشعبية.
أما الخارج، فتقف فيه الولايات المتحدة، وإسرائيل، ودول الخليج، كقوس محاصر يضيّق الخناق على العاصمة. وفوق هذا كله، دخل عامل ثالث أكثر رعبًا: السماء نفسها أصبحت مصدر تهديد. المسيرات الدقيقة، والضربات الجراحية، والعمليات السرّية التي طالت قلب طهران أظهرت للنظام أن العاصمة ليست سوى “مدينة مكشوفة” أمام عدو يستطيع الطيران فوق الجبال والدخول من النوافذ.
في هذه اللحظة، قررت إيران أن طهران لم تعد مكانًا مناسبًا لحفظ الدولة، وأن الاحتفاظ بمركز القوة داخل العاصمة يشبه الاحتفاظ ببيض ثمين على حافة شرفة. وهكذا برز الخيار الذي كان لسنوات يُناقش بهدوء بين النخب الأمنية: الانتقال نحو مكران. ليس انتقالًا رسميًا يُعلن في التلفزيون، بل انتقال فعلي، هادئ، تدريجي، يعيد تشكيل عقل الدولة ومراكز نفوذها.
مكران بالنسبة لإيران ليست مجرد مدينة ساحلية؛ بل هي فلسفة جغرافية كاملة. فهذا الساحل الممتد على بحر العرب والمحيط الهندي يشكّل نقطة التماس الوحيدة لإيران مع البحر المفتوح. الخليج العربي – رغم أهميته – بات “مسرحًا مكشوفًا” بسبب القواعد الأمريكية وكثافة الرادارات وازدحام الأساطيل. لكنه في النهاية خليج ضيق، أي ضربة كبيرة تغلقه. أما بحر العرب والمحيط الهندي فهما فضاء واسع، مفتوح، عميق، لا يسيطر عليه أحد، ولا تصل إليه الرقابة العسكرية بنفس القوة. هنا بالضبط وجدت إيران نافذتها التي لم تمتلكها عبر ألفي سنة من تاريخها: القدرة على التحرّك خارج طوق الخليج العربي.
وخلف هذا الساحل، تصطف جبال ضخمة تمتد كحائط طبيعي، تمنح مكران ميزة لا تقدّر بثمن. فالجغرافيا هناك تشبه قلاعًا طبيعية محفورة في الصخور. الأنفاق، مخازن الصواريخ، غرف العمليات، ومراكز القيادة، كلها يمكن أن تُطمر تحت الجبال بطريقة تجعل استهدافها ضربًا من ضروب المستحيل. من يعرف إيران، يعرف أنها دولة “هوية جبلية”؛ فهي ليست بنت السهول، بل بنت التضاريس المحصّنة. ومكران تمنحها ما تحب: جبالًا تحمي، وبحرًا يفتح لها أبواب المستقبل.
لكن الأهم من ذلك أن مكران تقع على مقربة من باكستان، الدولة التي تمثّل لإيران خطًّا جيوسياسيًا بالغ الأهمية. العلاقة بين البلدين ليست عداءً ولا تحالفًا كاملًا، لكنها علاقة “احترام مضمر”؛ فباكستان دولة نووية، ذات ارتباط استراتيجي بالصين، وإيران تحتاج لهذا الامتداد الذي يخرجها من دائرة الخنق الأمريكي. ومع وجود مشروع “الحزام والطريق” الصيني، أصبح ساحل مكران جزءًا محتملًا من منظومة لوجستية كبرى تربط الصين بالمحيط الهندي. ذلك يعني لإيران فرصة ذهبية للهروب من العقوبات، وفتح خطوط تجارة وتصدير خارج الخليج، وربما خارج الرادار الدولي.
هذه الجغرافيا الساحلية – الجبلية لم تعد مجرد فائدة نظرية، بل أصبحت مركزًا جديدًا للحرس الثوري. فمنذ عام 2016، بدأ الحرس بنقل قواته البحرية، وصواريخه الساحلية، وزوارقه السريعة، وورش تصنيع الطائرات المسيّرة، وغواصاته القزمية، وحتى مراكز تدريب وحداته الخاصة، تدريجيًا نحو مكران. هذا التحول لم يكن قرارًا عسكريًا فقط، بل كان قرارًا استراتيجيًا يعبّر عن شعور القيادة بأن الخليج “لم يعد ساحة آمنة”، وأن طهران “لم تعد مدينة قابلة للسيطرة”.
فالطائرات المسيّرة التي وصلت إلى بوشهر والأحواز، وإلى منشآت حساسة داخل العاصمة، وحتى عمليات الاغتيال التي جرت في قلب طهران، جعلت النظام يدرك أن “السماء ليست له”. وفي دولة يعتنق قادتها فكرة البقاء مهما كلّف الأمر، يصبح البحث عن مأوى تحت الجبال، وبالقرب من البحر، ضرورة وجودية وليست رفاهية استراتيجية.
من هنا تسعى إيران إلى شيء أكبر من مجرد قاعدة عسكرية: إنها تريد أن تصبح دولة بحرية لأول مرة في تاريخها. فالعالم يتغيّر، والطاقة تتحرك نحو المحيط، والصين والهند تتنافسان على السيطرة على الطرق البحرية، والاقتصاد العالمي يعود إلى البحار كما كان زمن طريق البهارات. وإيران، التي كانت عبر آلاف السنين دولة برّية محاصرة في الهضبة، تريد أن تحجز لنفسها مقعدًا على المحيط.
لهذا السبب بالذات، بدأت المنشآت الحساسة – بما فيها أجزاء من البرنامج النووي والصاروخي – تتحرك باتجاه الساحل. ليس لأن إيران تريد الحرب، بل لأنها تريد حماية ما تعتبره “بنية بقاء النظام”. طهران أصبحت مدينة هشّة، مثقلة بالسكان، مليئة بالاختراقات، قابلة للاشتعال مع أي أزمة داخلية. بينما مكران مكان يستطيع النظام أن يعمل فيه دون مشاهدة، وأن يخبّئ صواريخه دون مراقبة، وأن يحفظ قيادته تحت الأرض دون أن يشعر الشعب أو الخصوم بما يجري.
إن ما يحدث اليوم ليس نقلًا رسميًا للعاصمة، بل هو نقل للعاصمة الحقيقية: عاصمة القوة، المخازن، الأنفاق، القيادة، والقرارات الحساسة. هذا ما فعله المعتصم عندما بنى سامرّاء قبل إعلانها عاصمة. وهذا ما فعله القاجار حين نقلوا السلطة إلى طهران قبل الاعتراف بها رسميًا. وهذا بالضبط ما تفعله إيران اليوم مع مكران: تبنيها أولًا… ثم تجعلها مركزًا… ثم تصبح واقعًا.

في الخلاصة، مكران ليست مشروعًا اقتصاديًا، ولا ميناءً جديدًا، ولا مدينة ترفيهية تطل على البحر. إنها مشروع نجاة كامل. النظام الإيراني يدرك أن طهران قد تواجه يومًا ما سيناريوهات انهيار: احتجاجات واسعة، ضربات دقيقة، عمليات نوعية، أو حتى تصدّع داخلي. ولذلك يبني لنفسه مركز قوة بديلًا، يصعب ضربه، ويصعب كشفه، ويصعب إسقاطه.
مكران هي “خطة بقاء النظام”، وجسر انتقاله من دولة محاصرة في الجبال إلى دولة تطل على المحيط. ولهذا فإن السؤال الحقيقي ليس: لماذا اختارت إيران مكران؟
بل: ماذا تخطط إيران أن تفعل بعد أن تكتمل مكران؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى