اخبار العراق
أخر الأخبار

الاميبيا والواقع العربي(امة تنشطر بدون توقف )

تتسم الاميبيا ، هذا الكائن الدقيق ، بقدرتها على التكاثر عبر الانشطار الثنائي، حيث تتحول الخلية الواحدة إلى خليتين ثم اربعة فثمانية بلا توقف ، في دورة مستمرة لاتعرف الاستقرار
هذا التشبيه البيولوجي يبدو اليوم الأكثر تعبيراً عن واقع العرب ، اذ لم يعد الانقسام فعلاً طارئاً أو ظرفياً ، بل اصبح سلوكاً متجذراً في الشخصية العربية المعاصرة ، حتى غدا
الانشطار سمة جمعية تتكرر في الأسرة والمجتمع والسياسة والفكر والدولة .
ان الواقع العربي اليوم ينقسم بسرعة تفوق سرعة انشطار الاميبيا نفسها ، فالجزء يتشظى إلى اجزاء ثم تتفتت تلك الأجزاء إلى اجزاء اصغر في سلسلة لاتنتهي من التفكك . هذا الانشطار العميق لم ينتج سوى مزيد من الجهل والتخلف والأمية وانسداد الأفق الحضاري ، فالخلاف عند العرب لايفضي إلى وفاق والحوار لا ينتج حلول، والاجتماع لا يولد وحدة ، بل غالباً ما ينتهي إلى اختلاف اشد .
حتى الجلسة الصغيرة التي تضم خمسة أشخاص للبحث في مشكلة عربية واحدة ، تنتهي غالباً إلى انقسامهم بدل اتفاقهم .
وهذا النموذج المصغر هو نسخة طبق الأصل عن واقع القوى السياسية والأحزاب الوطنية والحكام العرب وفصائل المقاومة ، وجميع القوى القومية التي انقسمت على نفسها حتى فقدت القدرة على قيادة الامة او تحقيق الوحدة داخل صفوفها .
لقد عرف العرب في الجاهلية الاولى حالة مماثلة من التشظي ، قبائل تغزو قبائل ، وصراعات لا تهدأ ، ثم جاء الإسلام برسالة جمعت شملهم ، وجعلت منهم قوة عظمى ،مؤمناً بوحدة السماء والأرض (( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا .. ))
ولكن رغم وجود الإسلام ذاته اليوم ، إلا أن العرب عادوا إلى حالة الانقسام الاولى ، ونحن (( ندعي الإسلام )) ولكن لا نطبق جوهره ، خصوصاً ما يتعلق بالوحدة والتكافل والعدالة
بالتأكيد هنالك العديد من العوامل اثرت على ذلك منها داخلية وخارجية ، ان من اهم العوامل الداخلية التي أدت إلى الانشطار العربي هي :
اولاً : الجهل والتخلف وغياب التنمية
احد اهم اسباب هذا الانشطار هو انتشار الامية والانهيار التعليمي ، وتخلف المنظومات الصحية ، وفشل الحكومات العربية في بناء تنمية حقيقية مستدامة . فقد تحول الإنسان العربي من صانع حضارة إلى ضحية فساد مستمر ، وبطالة واسعة ، وتفاوت طبقي مهين وفقدان لفرص العمل وانعدام العدالة الاجتماعية .

ثانياً : العادات والتقاليد الاجتماعية والطائفية:
لا تزال المجتمعات العربية اسيرة منظومات قبلية وعشائرية وطائفية تتناقض جذرياً مع تطورات العالم . هذه البنى التقليدية جعلت التوحد امراً شبه مستحيل . اذ تقدم الولاء للطائفة والقبيلة على الولاء للامة .

ثالثاً : الحكام العرب والارتهان للخارج
ساهمت الأنظمة العربية ، التي جاءت غالباً بدعم خارجي في تكريس الانقسام من اجل الحفاظ على بقائها ، فالوحدة تهدد سلطتها ، والوعي يخيفها ، والتكامل بين العرب يحد من نفوذ القوى الكبرى التي جاءت بها . لذلك عمل كثير من الحكام على اضعاف شعوبهم ، وتهميش التعليم وتغذية الانقسامات الداخلية .

رابعاً : عقدة الزعامة .
العربي اليوم أسيراً لعقدة الزعامة والقيادة الفردية ، كل حزب يريد القيادة ، وكل حركة تريد المركز ، وكل دولة تريد الريادة على الآخرين ، هذا التنافس المرضي جعل من الوحدة العربية مشروعاً مؤجلاً إلى اجل غير مسمى .
اما من اهم العوامل الخارجية التي تغذي الانقسام هي :
اولاً : الصهيونية العالمية
تحمل الصهيونية حقداً عميقاً تجاه العرب والمسلمين ، وقد عملت تاريخياً على إضعافهم وتمزيق صفوفهم ، وبذلت كل جهد لاستغلال نقاط ضعفهم ، مدركة أن امة مفككة اسهل على الاستهداف من امة موحدة .

ثانياً : استغلال التناقضات المذهبية
عملت القوى الغربية على توظيف الخلافات
(( السنية – الشيعية )) لتشويه صورة الإسلام وإضعافه امام العالم ، وتقديمه كدين عنف وارهاب ، وقد تم تكليف ايران عملياً بإثارة الفتن في المنطقة ، وقد نجحت ايران في تحويل لبنان وسوريا والعراق واليمن إلى ساحات صراع ودمار وانقسام .

ثالثاً : زرع إسرائيل في قلب الامة
انشئت إسرائيل لتكون اداة تفجير دائم للمنطقة ، قوة متفوقة عسكرياً ومالياً وتقنياً ، هدفها منع اي نهضة عربية ، وقد خاضت كل حرب مطلوبة لتدمير اي تجربة قومية او وحدوية بدءاً من تجربة المرحوم عبد الناصر وصولاً إلى تجربة العراق بقيادة حزب البعث
وكل مشروع رفع شعار التحرر والوحدة .

منذ الأربعينات ، حاولت القوى القومية العربية معالجة الواقع العربي ، وكان حزب البعث العربي الاشتراكي من ابرز القوى التي تبنت مشروعاً فكرياً ونضاليا نهضويا لإنقاذ الامة ، وقد منح الحزب هدف الوحدة العربية اولوية قصوى ، ايماناً منه بأن وحدة الامة
هي السبيل الوحيد للخلاص من التخلف والتبعية والاستعمار . ولكن هذه المشاريع القومية واجهت عداء الخارج وخيانة الداخل والأنظمة العربية المعادية للوحدة والضربات العسكرية التي استهدفت كل تجربة وحدوية حقيقية .
ان ما تواجهه الامة العربية اليوم من مخاطر جسيمة ، فهي بحاجة إلى وقف الانشطار والتشظي تماماً كما تعالج الاميبيا عبر ايقاف انشطارها ، فإن علاج الواقع العربي يبدأ من وقف الانقسام الذي ينخر بالأمة .
فالوحدة لا تتحقق من دون وعي جماعي وارادة سياسية مستقلة ومشروع نهضوي ومؤسسات قوية وتحرر من التبعية وإيمان مطلق بأن ما يجمع العرب اكثر مما يفرقهم
ان العرب اليوم وأحزابهم القومية والوطنية امام مفترق طرق اما الاستمرار في الانشطار حتى التلاشي أو استعادة مشروع الوحدة الذي وحده يعيد للامة قوتها ومكانتها ودورها الحضاري .

                               عمان 
                 22/11/2025

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى