Uncategorized

فائق زيدان… بين التوازنات الدولية وواجب النهوض الوطني

بقلم: الأستاذ الدكتور قيس عبد العزيز الدوري
خبير في التعليم العالي والإدارة العامة
عضو المنتدى العراقي للنخب والكفاءات لجنة التربية والتعليم العالي

قاضٍ في زمنٍ مضطرب
في عراقٍ تشتبك فيه المصالح وتتقاطع فيه الولاءات، يبرز اسم القاضي فائق زيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى، بوصفه أحد أعمدة الدولة العراقية الحديثة، ورمزًا لمؤسسةٍ لا تزال – رغم كل العواصف – تحفظ للدولة هيبتها، وللعدالة قيمتها.
لقد استطاع هذا الرجل أن يمسك بخيوطٍ دقيقة بين القوى المتصارعة، وأن يوازن بحذرٍ بين ضغط النفوذ الإيراني من جهة، وبين التطلعات الأمريكية من جهةٍ أخرى، دون أن يفقد مهابته أو استقلال قراره.
فائق زيدان وإيران… بين القرب والحدود
لم يكن القاضي فائق زيدان غائبًا عن الملفات الكبرى التي مست النفوذ الإيراني في العراق.
حين أصدر مذكرة القبض على الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إثر اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، اعتبره خصومه “قاضي إيران”، واعتبره آخرون “قاضي السيادة العراقية”.
غير أن القراءة المتأنية تُظهر أن القرار لم يكن دفاعًا عن إيران بقدر ما كان إعلانًا بأن الدم العراقي لا يُهدر دون محاسبة، وأن القضاء لن يُدار من الخارج، مهما كان اتجاه الريح.
وفي المقابل، لم يُعرف عن زيدان أنه فتح باب القضاء العراقي أمام الهيمنة الإيرانية أو تركه أداةً بيد الميليشيات، بل كان – رغم الضغوط – يحاول أن يبقي ميزان العدالة في المنتصف، وإن كانت بعض قراراته قد فسّرها البعض بأنها تميل إلى كفة القوى المقرّبة من طهران.
فائق زيدان وأمريكا… بين الحوار والاستقلال
وعلى الضفة الأخرى، لم يكن فائق زيدان خصمًا لأمريكا، بل التقى بالسفراء والمسؤولين الأمريكيين في مناسبات عدّة، ناقش فيها ملفات قانونية وأمنية مشتركة، في إطار التعاون الدولي المشروع.
لكنّه لم يكن تابعًا لواشنطن؛ فلم يُعرف عنه أنه خضع لإملاءاتٍ أمريكية أو انحاز لسياساتها ضد المصلحة العراقية، بل كان – في الغالب – يوازن لغة القانون بلغة الدولة، في زمنٍ لم تعد فيه الدولة العراقية تملك ترف الانحياز الكامل لأي جهة.
القاضي العراقي الأصيل… العاشق للتوازنات
الواقع أن فائق زيدان يجسّد نموذج القاضي العراقي الأصيل، الذي يدرك أن البقاء في موقع المسؤولية يتطلب فنّ التوازن بين الداخل والخارج، بين السياسة والمبدأ، بين الممكن والمأمول.
هو لا يميل إلى أحدٍ بعينه، بل يميل إلى استقرار العراق، ويعلم أن الانحياز لطرفٍ دون آخر يعني سقوط الدولة في فوضى جديدة.
القضاء والتعليم… جناحا الدولة
لكنّ العدل وحده لا يكفي لبناء وطن.
فكما أن القضاء جناح العدالة، فإن التعليم جناح النهضة، ولا تطير الدولة بجناحٍ واحد.
لقد أحزنني – وأنا رجلٌ عشت عمري في ميدان التعليم العالي – أن أرى اهتمام الدولة يتركز على القضاء والأمن، فيما تُترك وزارات التربية والتعليم العالي فريسةً للتسيّب والفساد واللامبالاة.
فما نفع قاضٍ عادلٍ في دولةٍ يخرج من مدارسها وجامعاتها جيلٌ لا يعرف معنى العدل؟
إن المدرسة والجامعة هما الحاضنة الأولى للضمير، ومتى انهار التعليم انهار كل شيء.
عتب على القاضي المتوازن
من هنا، أعتب على فائق زيدان – لا بصفتي ناقدًا، بل بصفتي ابنًا لهذا الوطن وخبيرًا بالتعليم العالي – أن لم يلتفت إلى الجناح الثاني من الدولة: التعليم.
فهو، بحكم مكانته ووزنه الوطني، كان قادرًا على أن يدعو إلى تحصين التربية والتعليم من المحاصصة، وأن يرفع صوته في وجه العبث الذي أصاب الجامعات والمدارس، لأن العدالة لا تُبنى في قاعات المحاكم فحسب، بل في قاعات الدرس أيضًا.
نداءٌ من أجل نهضة متكاملة
لو قُدّر لنا أن نعمل جنبًا إلى جنب، نحن أهل الفكر والتعليم، معكم أنتم أهل القضاء والعدل، لأمكننا أن نعيد للدولة العراقية توازنها المفقود.
فالإصلاح الحقيقي يبدأ من العقل والضمير معًا؛ العقل في الجامعة، والضمير في المحكمة.
وإني على يقين بأن العراق يستحق من أمثال فائق زيدان أن يمدّوا أيديهم إلى جناح التعليم، ليكتمل التحليق نحو دولةٍ عادلةٍ وقوية ومتعلمة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى