
بقلم: د. رياض الدليمي
في زمنٍ يعلو فيه ضجيج الشعارات وينخفض صوت الضمير، يغدو السؤال عن العفّة الفكرية أهمّ من كلّ حديثٍ عن عفّة الأجساد. فالمجتمع الذي يُحاكم الجسد ويُعفي الفكر من المساءلة، هو مجتمعٌ محكوم عليه أن يعيش في دائرة الزيف، حيث تُستبدل الحقيقة بالخطابة، والضمير بالشعار.
ما فائدة أن نحرس أجسادنا من الخطيئة، بينما نترك عقولنا نهباً للخداع؟
وأيّ عذريةٍ تُجدي حين يكون الفكر نفسه قد باع آخر خيوط نقائه في سوق المصالح؟
لقد ابتُليت أوطاننا بعهرٍ من نوعٍ آخر، عهرٍ يتخفّى خلف العمائم واليافطات، ويطلّ من شاشات الإعلام بلغةٍ مطهّرةٍ من كل معنى.
يُعاد تدوير الفساد في كل موسم انتخابي، كما يُعاد تدوير الوجوه التي أثقلت كاهل العراق بالوعود الكاذبة.
الوجوه ذاتها، الخطب ذاتها، الألوان تتبدّل لكن الرائحة واحدة؛ رائحة الزيف المغلّف بشعارات الوطنية والإصلاح.
في الوقت ذاته، يُقصى الوطنيون الحقيقيون إلى الهامش، ويُطارد المثقفون لأنهم يرفضون التطبيل.
الكلمة الحرة تُحاصَر، والفكرة النقية تُخنَق، لأنّها تهدّد منظومةً لا تعيش إلا على الغبار والتكرار.
أما الأقلام التي باعت شرفها، فتُمنح الجوائز والألقاب، لأنها أتقنت دورها في صناعة الوعي الزائف الذي يُعيد تدوير الخراب.
هكذا يُغتصب الفكر يومياً على أيدي من يزعمون الطهارة، فيتحول الدين إلى شعارٍ انتخابي، والثقافة إلى إعلانٍ تجاري، والوطن إلى تذكرةٍ موسميةٍ يُشترى بها الولاء ويُباع بها المستقبل.
العهر الفكري ليس قضية أخلاقية فحسب، بل جريمةٌ بحق الوعي الجمعي.
لأنّ الفكر حين يُدنّس، يفسد معه كلّ شيء: السياسة، والعدالة، والهوية.
إنّ أخطر ما يواجه العراق اليوم ليس الفساد المالي وحده، بل الفساد الذهني الذي يُعيد تزيين نفس الوجوه، ويُقنع الناس بأنّ التكرار هو قدر، وأنّ الأمل ترف.
لكن الأوطان لا تُطهّر بالخطابات، بل بالعقول التي ترفض التلوث.
ولا تُبنى بالمهرجانات الانتخابية، بل بالأفكار التي لا تُشترى، وبالأقلام التي لا تُكسر، وبالضمائر التي لا تُساوم.
فيا أبناء العراق،
احرسوا عذرية أفكاركم قبل أن تُحاكموا أجسادكم.
اغسلوا عقولكم من أوهامٍ تُقدّم الخضوع على أنه وعي، والصمت على أنه حكمة.
فالفكر العاهر لا يُنجب إلا خراباً، والوعي المزيّف لا يبني وطناً.



