اخبار العراق
أخر الأخبار

تحوّل العواصم في التاريخ… قراءة موسّعة في أثر انتقال مركز الدولة على صعودها وسقوطها

تحوّل العواصم في التاريخ… قراءة موسّعة في أثر انتقال مركز الدولة على صعودها وسقوطها

الأستاذ الدكتور قيس عبد العزيز الدوري
عضو المنتدى العراقي للنخب والكفاءات

العواصم ليست مدنًا… بل مراكز قلب الدولة
عندما تنتقل عاصمة دولة ما، فالأمر ليس تغيير مبانٍ أو طرق،
بل هو إعلان عميق بأن “مركز القوة” قد غيّر مكانه.
فالعاصمة هي:
• قلب السيادة
• مركز القرار
• روح الدولة
• ومرآة التحولات الداخلية
وتاريخ الأمة الإسلامية — وكذلك إيران — مليء بأمثلة انتقال العواصم.
وفي كل مرة يتكرر حدث الانتقال،
تظهر آثار عميقة:
• صعود دول
• انهيار دول
• سقوط شرعيات
• أو تعزيز نفوذ جديد
هذا المقال يقدّم قراءة موسّعة لتلك التحولات،
من المدينة المنورة إلى الكوفة،
ومن دمشق إلى حوران،
ومن بغداد إلى سامراء ثم العودة،
ومن أصفهان إلى طهران،
ثم أخيرًا: لماذا تستعد إيران اليوم لانتقال جديد؟
أولًا: من المدينة المنورة إلى الكوفة — تحوّل المركز من النبوّة إلى الدولة
1) المدينة المنورة… العاصمة التي أسّست حضارة
كانت المدينة المنورة “العاصمة المثالية” للدولة الإسلامية الأولى:
• مركز الوحي
• منبع التشريع
• مكان تجمع الصحابة
• منطلق الفتوحات
لكن نمو الدولة خارج الجزيرة العربية جعل المدينة بعيدة عن:
• طرق الإمداد
• حدود الفتح
• الجيوش
• مراكز القوة الجديدة
2) انتقال العاصمة إلى الكوفة في عهد الإمام علي رضي الله عنه
عندما واجه الإسلام أول حرب أهلية كبرى،
وظهرت:
• الفتنة
• تمرد الشام
• تمرد البصرة
• صراع القوى القبلية
انتقل الإمام علي من المدينة إلى الكوفة.
لماذا؟
1. مركز الجيش الإسلامي أصبح في العراق
2. الكوفة أقرب إلى الشام، مركز الفتنة
3. المدينة لم تعد قادرة على إدارة دولة تمتد من مصر إلى إيران
4. الكوفة أصبحت عاصمة الجغرافيا الجديدة للدول
النتيجة: آثار إيجابية وسلبي
إيجابيات:
• سرعة اتخاذ القرار العسكري
• الاقتراب من مناطق الصراع
• إدارة الجيوش بشكل مباشر
• استفادة من القوى العراقية
سلبيات:
• تراجع المدينة كمركز سياسي
• دخول الدولة في دوامة الصراع القبلي العرقي
• تحوّل مركز الشرعية من “الوحي” إلى “السياسة والعسكر”
• تحفظ جزء من الأمة على التغيي
وهكذا كان انتقال العاصمة مؤشّرًا على تغيّر روح الدولة.
ثانيًا: من دمشق إلى حوران — محاولة أمويّة لتخفيف ضغط العاصف
1) دمشق… جوهرة بني أمي
اختار معاوية بن أبي سفيان دمشق عاصمة لعدة أسباب:
• قوة الشام الاقتصادية
• الجيش المنظم
• بعد المسافة عن مراكز التمرد
• الاستقرار المدني
• الموقع الاستراتيجي بين البحر والبر
وبقيت دمشق عاصمة قوية لقرابة قرن.
2) فلماذا فكّر الأمويون بنقل العاصمة إلى حوران؟
في أواخر عهد الدولة الأموية،
دخلت الدولة في اضطرابات بسبب:
• ثورات العراق
• صعود العباسيين
• الضغط القبلي
• طموحات الجند
• اندلاع حرب أهلية داخل الأسرة الأموية نفسه
وحاول الخليفة الأخير مروان بن محمد
أن يجعل من حوران مركزًا عسكريًا لإعادة السيطرة
الدافع الأساسي كان عسكريًا
• حوران قريبة من الجند
• وبعيدة نسبيًا عن نفوذ العباسيين
• وتمنح الدولة “عمقًا دفاعيًا”
لكن الخطوة جاءت متأخرة
أثر الانتقال ومحاولة الإنقاذ
• هُزمت الدولة الأموية
• لم يستطع نقل العاصمة حماية الحكم
• لأن المشكلة كانت “تفكك داخليًا” قبل أن تكون جغرافي
وهذا درس مهم:
نقل العاصمة لا ينقذ دولة منهارة من داخلها.
ثالثًا: من بغداد إلى سامرّاء — انتقال اضطراري بعد تمرد الجند
1) بغداد: عاصمة الحضارة العباسي
اختارها المنصور لأنها:
• مركز تجاري
• ملتقى طرق
• محصّنة طبيعيًا
• على نهر دجلة
• قريبة من فارس
• بعيدة عن التمردات الأناضولية
2) لماذا انتقلت العاصمة إلى سامرّاء
في عهد المعتصم،
زادت قوة “الأتراك” في الجيش،
وكان وجودهم في بغداد يشكل:
• اضطرابًا اجتماعيًا
• اصطدامًا مع الناس
• تهديدًا للأمن الداخلي
فبنى المعتصم سامرّاء كعاصمة عسكرية منعزلة
سلبيات سامرّاء
• عاصمة بلا اقتصاد
• بلا شرعية تاريخية
• بلا سكان
• معتمدة على الجيش فقط
• تزيد عزلة الخليفة
إيجابياتها
• السيطرة على الجند
• تعزيز السلطة المركزية مؤقتًا
لكن بمجرد أن ضعف الخليفة،
انقلب السحر على الساحر.
3) عودة العاصمة إلى بغدا
في عهد المتوكل ومن بعده،
اتضح:
• لا يمكن إدارة دولة حضارية من عاصمة عسكرية
• لا يمكن الاعتماد على الجند وحدهم
• ولا يمكن عزل الدولة عن المجتمع

فعادت العاصمة إلى بغداد
درس سامرّاء
الانتقال إلى عاصمة عسكرية يعمّق الأزمة بدل حلّها.
رابعًا: من أصفهان إلى طهران — انتقال القاجار الذي غيّر هوية إيران
1) أصفهان… تاج الدولة الصفوية
كانت:
• مركز التجارة
• مقر العلماء
• مدينة الفنون
• قلب فارس
لكن بعد سقوط الصفويين،
وظهور القاجار،
كانت الدولة تعيش فوضى داخلية وحروبًا خارجية
2) لماذا اختار القاجار طهران
كان السبب “عسكريًا وأمنيًا” بالدرجة الأولى:
• أصفهان مفتوحة وسهلة الهجوم
• القبائل المتمرّدة قريبة منها
• الروس يتحركون شمالًا
• وكان لا بد من عاصمة “قابلة للدفاع”
طهران
كانت:
• مدينة صغيرة
• محصنة بالجبال
• قريبة من الأناضول
• قريبة من أفغانستان
• محورية بين القبائل
ما أثر هذا الانتقال؟
إيجابيات:
• تأسيس دولة حديثة
• انفتاح على أوروبا
• تركيز الدولة في نقطة محصّنة
• تطور إداري لاحق في عهد رضا شاه
سلبيات:
• مركزية مفرطة
• إهمال الأطراف
• خلق “دولة فوق المجتمع”
• بداية الانفصال بين الشعب والسلط
وهو ما نراه اليوم في الحركات الانفصالية في الأطراف.
خامسًا: ماذا تقول هذه التجارب التاريخية
بعد مرور 1400 سنة من انتقال العواصم من:
• المدينة
• إلى الكوفة
• إلى دمشق
• إلى حوران
• إلى بغداد
• إلى سامرّاء
• إلى بغداد ثانية
• إلى أصفهان
• ثم طهران
نستطيع استخلاص خمس قواعد تاريخية ثابتة
القاعدة 1: انتقال العاصمة علامة على “تغيّر في قلب الدولة”
عندما تنتقل العاصمة، فهذا يعني:
• صراع داخلي
• تحول هوية
• انتقال مركز نفوذ
• وتغيير طريقة الحكم .
القاعدة 2: أنجح انتقال هو الذي يجري في وقت القوة… وليس الضعف
مثل:
• انتقال خلافة بني أمية إلى دمشق
• انتقال الفرس من همدان إلى المدائ
أما انتقال الضعف:
• سامرّاء
• حوران
• طهران بعد انهيار الصفويين
فلا ينقذ الدول بل يسرّع سقوطها.
القاعدة 3: العواصم العسكرية تفشل دائمً
سامرّاء نموذج واضح.
العواصم الناجحة هي:
• التجارية
• الحضارية
• الاقتصادية
• ذات السكان
• ذات البنية التحتية
القاعدة 4: العواصم التي تبعد الناس عن الحكم تخلق فجوة خطير
طهران مثال واضح:
عاصمة محصنة فوق الجبال
أبعدت السلطة عن الناس
وأنتجت:
• مركزية خانقة
• نخبة منعزلة
• احتجاجات متكررة
القاعدة 5: العواصم الجديدة تُبنى دائمًا على “خوف” أو “طموح
إما:
• خوف من السقوط (سامرّاء، طهران)
أو
• طموح لتوسيع الدولة (دمشق، بغداد)
الخاتمة: إيران تستعد لانتقال جديد… من طهران إلى مكران
كما رأينا في التاريخ:
كل انتقال للعاصمة يسبق تحولًا استراتيجيًا كبيرًا.
واليوم،
إيران تعيش:
• انهيار طهران اقتصاديًا
• احتقانًا شعبيًا
• خوفًا من ضربة عسكرية
• ضغطًا نوويًا
• زلازل سياسية
• صراعًا بين الحرس والدولة
• وتحضيرًا لساحل مكران ليكون مركز القوة الجديد
ولهذا نختم هذا المقال التاريخي بالقول:
ترقبوا سلسلة المقالات القادمة:
(من طهران إلى مكران… ولادة إيران الجديدة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى