
تأملات في الكتابة والوجود والخذلان
الأستاذ الدكتور قيس عبد العزيز الدوري
عضو المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
هناك من يخاف من النور، لا لأنه يؤذيه، بل لأنه يفضح عتمته.
وحين تبذل روحك على الورق، وتغرس في الحبر بقايا قلبك، يأتي من ينهرك لأنك تجرأت على أن تُوجَد.
كأن الكتابة عندهم جريمة، وكأن البوح تهمة لا تُغتفر، وكأن من يكتب يُعلن حربًا على من سكت.
آمنتُ بمقولة: “مت فارغًا”، فالموت الحق ليس فناء الجسد، بل أن ترحل وما زالت أفكارك حبيسة صدرك، لم ترَ النور، ولم تُختبر في محكّ الوجود.
لذلك أكتب، لا لأُرضي أحدًا، ولا لأنافس أحدًا، بل لأن الكتابة صلاتي الصامتة في معبد الحياة.
هي فعل نجاةٍ من الاختناق، وليست عرضًا للمديح أو الشهرة.
ومع ذلك، يظلّ بعضهم يرى في كل حرف تكتبه تهديدًا لوجوده، وكأن الوجود ضيّق لا يسع روحين متقدتين.
أنا لا أعاتب من لا يقرأ لي، فلكل إنسان ذائقته، ولكنني أتعجب من أولئك الذين يرفضون أن يروا غيرهم يزهر.
إنهم لا يحسدون على المال، ولا يغارون من المنصب، بل يتوجّسون من النور ذاته، لأن النور يفضح الفراغ الذي يخبئونه في أعماقهم.
وأقولها بصدقٍ لا لبس فيه: ليس بيني وبين أحدٍ شرفٌ منقوص ولا مالٌ مختلس، بل حسدٌ أعمى لا يرى إلا أنه متى وُجدتُ تلاشى هو.
تلك هي مأساة النفوس التي قست عليها الحياة فارتدت إلى داخلها، حتى غدت دهاليزها متاهةً لا ضوء فيها ولا هواء.
أما ذلك الذي حمل شهادة في القانون الدولي، فإني أعلم أنه قادر على أن يكتب المجلدات لو شاء، ولكنه اختار الصمت، لا عجزًا بل هروبًا من مواجهة ذاته.
هو يعيش في عالمه الداخلي الغريب، يؤنسه الصمت وتُثقله الحقيقة، يعيش كمن يخاف من صوته، لأن في صوته اعترافًا بما لم يفعله.
وأنا، وإن نهرني اليوم، فلن أُنكر أني أحبه، لأن بيني وبينه رابط الدم، ورابط الدم لا ينقطع حتى وإن غطّاه الجفاء.
لكني لن أعتذر عن الكتابة، لأن الحروف ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية.
من يمنعني من الكتابة كمن يطلب من الشجرة ألا تثمر، ومن النهر ألا يجري.
الكتابة ليست فعل غرور، بل فعل مقاومة.
مقاومة للفناء، للنسيان، للجبن الذي يكمّم الأفواه.
وما دمت أتنفس، سأظل أكتب… حتى أموت فارغًا، وقد أفرغت ما في قلبي، وشهد الحبر أني كنت.
شكرًا وتقديرًا
إلى الدكتورة باهرة الشيخلي في وكالات الحدث،
وإلى الأستاذين أحمد إسماعيل وأحمد القوبري في صحيفة اللواء،
وإلى إيهاب العراقي الأصيل في صوت العرب نيوز،
الذين دعموني في نشر مقالاتي، فلهُم بعد الله سبحانه وتعالى الفضل فيما يصل من صوتي إلى الناس، جزاهم الله عني خير الجزاء



