الشمس والكسوف: رحلة بين التاريخ والعلم والإيمان
الاستاذ الدكتور قيس عبدالعزيز الدوري
عضو المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
أثر كتابي الصادر عام 2003
حين أصدرتُ كتابي عن تاريخ علم الفلك سنة 2003 كتاريخ لعلم الفلك حيث اني لست متخصص بعلم الفلك ولكنني مؤرخ لتاريخ العلوم وفي دار المثنى للطباعة والنشر بغداد، شارع المتنبي، تمت طباعته حيث كنت أضع بين يدي القارئ ثمرة سنوات من البحث في المصادر العربية والإسلامية والكتابات الغربية المترجمة.
لاقى الكتاب حضورًا مميزًا في الوسط العلمي والثقافي آنذاك:
استُخدم في بعض الجامعات كمصدر مساعد لطلبة التاريخ الإسلامي وتاريخ العلوم.
أشاد به عدد من الباحثين والقراء في شارع المتنبي، بوصفه محاولة جادة لإحياء إسهامات العرب والمسلمين في علم الفلك، وربطها بالسياق العالمي.
وجد فيه المهتمون مادة ثرية تجمع بين السرد التاريخي والتحليل العلمي، بعيدًا عن الجفاف الأكاديمي أو الغرق في الخرافة والأساطير.
وقد تميز الكتاب بربط الموروث العربي قبل الإسلام بالمكتشفات الإسلامية اللاحقة، ثم ربطهما معًا بالعلم الحديث، ليؤكد أن رحلة الفلك عند الإنسان هي سلسلة متصلة من الملاحظة والتأمل والبحث المستمر.
الشمس في الفكر القديم
الشمس كانت دائمًا أعظم الكواكب جرمًا وضوءًا ومكانة في نظر الإنسان. اعتبرها العرب ملكًا في السماء وسائر الكواكب جنوده وأعوانه. ولذلك كثرت أسماؤها عندهم: الضحى لظهورها، الجونة لظلمة لونها عند الغروب، الجارية لجريانها من المشرق إلى المغرب، والسراج لما تبثه من نور.
وقدسها بعض العرب، ولا سيما في جنوب الجزيرة العربية، وجعلوها جزءًا من ثالوث سماوي يضم الشمس والقمر والزهرة، قبل أن يحرر الإسلام الوعي من هذه العقيدة ويردها إلى كونها آية من آيات الله.
الكسوف بين الأسطورة والتصحيح النبوي
ظاهرة كسوف الشمس حيّرت الناس منذ القدم، فنسج العرب عنها أساطير شتى:
اعتقد بعضهم أن حيوانًا سماويًا يبتلع الشمس عند الكسوف.
وربط آخرون الكسوف بموت أو ولادة عظيم، فيجعلونه فألًا أو نذيرًا.
لكن الإسلام جاء ليصحح الفهم: إذ كسفت الشمس يوم وفاة إبراهيم ابن النبي ، فقال الناس: كسفت لموته. فخطب النبي قائلًا:
إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة.
وبذلك تحوّل الكسوف من خرافة إلى عبادة وخشوع، ومن نذير أسطوري إلى آية للتفكر والإيمان.
القيمة الفلكية للكسوف
تناولت في كتابي أن الكسوف ليس مجرد مشهد بصري، بل ظاهرة فلكية مهمة ذات أبعاد علمية عميقة:
لا يحدث إلا عند المحاق، حين يحجب القمر ضوء الشمس كليًا أو جزئيًا.
لا يتكرر كل شهر رغم دورة القمر، بسبب ميل مداره عن مدار الأرض.
استُخدم قديمًا وحديثًا لاكتشافات كبرى، مثل تجربة إدنجتون عام 1919 التي أثبتت نظرية النسبية العامة لآينشتاين برصد انحناء الضوء حول الشمس.
الكسوف إذن ليس مجرد ظاهرة عابرة، بل مختبر سماوي نادر يمنح العلماء فرصة لدراسة الهالة الشمسية ورصد حركة الضوء والمادة في الفضاء.
تأثير الشمس في الحياة
أوضحت في دراستي أن العرب كانوا على وعي بأثر الشمس المباشر في حياتهم:
النبات: لا ينبت إلا حيث تصله أشعتها.
الحيوان: يزداد نشاطه عند طلوعها ويخبو عند غروبها.
المناخ: تُحدث أشعتها التبخر وتكوّن السحب والمطر.
الإنسان: نشاطه وقوته يرتبطان بشروقها وغروبها.
وهذه الملاحظات أثبتها العلم الحديث، حيث تُعد الشمس المصدر الأساسي للطاقة والحياة على الأرض، ومنها ينبثق كل توازن بيئي ومناخي.
القرآن والعلم
القرآن الكريم يربط الشمس والقمر بعظمة الخالق:
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (فصلت: 37).
وفي موضع آخر: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ (إبراهيم: 33).
أما العلم، فيرى في الشمس والقمر أجسامًا سماوية تخضع لقوانين دقيقة.
الجامع بين النظرتين أن الظاهرة لا تُفهم فهمًا كاملًا إلا إذا اجتمع العقل المتأمل والقلب الخاشع.
واخيراً
من خلال كتابي عام 2003، ومن خلال تطور الدراسات الفلكية الحديثة، يظهر أن الشمس والكسوف يجمعان بين المعرفة والأسطورة والدين والعلم:
عند القدماء: أساطير وتصورات مرتبطة بالرهبة.
عند العلماء: قوانين واكتشافات دقيقة.
عند المؤمنين: آيات للتفكر والخشوع.
إنها ظاهرة كونية عابرة لكنها تذكّر الإنسان بضعفه أمام جلال الكون، وبأن النور قد يُحجب لحظة، لكنه لا يُطفأ أبدًا، لأن وراءه خالقًا حكيمًا يدبّر الأمر كله بحكمة لا متناهية


