اخبار الصيناخبار اميركا
أخر الأخبار

الولايات المتحدة والصين في منعطف إعادة

تشكيل ميزان القوة العالمي 🌍

▪️ابو بكر ابن الاعظمية

لم يعد الحديث عن التفوق العسكري الأمريكي من المسلّمات التي لا تقبل النقاش، كما كان الحال خلال العقود التي أعقبت نهاية الحرب الباردة. فالتغيرات المتسارعة في طبيعة الصراع الدولي، وتقدّم قوى صاعدة بنماذج مختلفة لإدارة القوة، فرضت واقعًا جديدًا باتت تعترف به مؤسسات القرار في واشنطن نفسها. ويأتي ما كُشف عنه من مضامين تقرير داخلي لوزارة الدفاع الأمريكية، تناولته صحيفة نيويورك تايمز، ليعكس قلقًا عميقًا من احتمال تعرّض الولايات المتحدة لهزيمة استراتيجية قاسية في حال اندلاع مواجهة عسكرية حقيقية مع الصين.

لا تنبع أهمية هذا التقدير من كونه سيناريو افتراضيًا فحسب، بل لأنه يمثّل تحوّلًا نوعيًا في التفكير الاستراتيجي الأمريكي، واعترافًا ضمنيًا بأن أدوات التفوق التقليدي لم تعد كافية لضمان الحسم في عالم تتغير فيه قواعد القوة ومعاييرها.

التحول في مفهوم القوة داخل النظام الدولي

ارتبط مفهوم القوة العسكرية لعقود طويلة بالسيطرة المباشرة، والانتشار الواسع للقواعد، والقدرة على الحسم السريع عبر التفوق الجوي والبحري. غير أن التطورات التكنولوجية، وتداخل الاقتصاد مع الأمن، وانتقال الصراع إلى مجالات غير تقليدية، جعلت من هذا المفهوم إطارًا غير مكتمل لفهم حروب القرن الحادي والعشرين.

اليوم، تُقاس القوة بقدرة الدولة على:

تعطيل منظومات الخصم بدل تدميرها

فرض كلفة مرتفعة باستخدام أدوات منخفضة الكلفة نسبيًا

إدارة صراع طويل دون استنزاف داخلي سياسي أو اقتصادي

في هذا السياق، برزت الصين كقوة أعادت تعريف القوة الشاملة، لا عبر تقليد النموذج الأمريكي، بل عبر بناء نموذج مغاير يتعامل مع الحرب بوصفها منظومة متكاملة تشمل الاقتصاد والتكنولوجيا والإنتاج والصبر الاستراتيجي.

دلالات القلق داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية

تعكس التقديرات المتداولة داخل البنتاغون إدراكًا متزايدًا بأن أي مواجهة محتملة مع الصين، خصوصًا في محيط تايوان، لن تكون مواجهة قصيرة أو محسومة، بل صراعًا معقّدًا متعدد الأبعاد.

ومن أبرز مصادر هذا القلق:

قابلية المنصات العسكرية الكبرى للاستهداف، مثل حاملات الطائرات والقواعد المتقدمة، في بيئة قتالية مشبعة بالصواريخ الدقيقة.

بطء منظومة التصنيع الدفاعي الأمريكية مقارنة بالقدرة الصينية على الإنتاج الكمي السريع والمتكيّف مع متطلبات الحرب.

تقدّم صيني في تقنيات الصواريخ الدقيقة وفرط الصوتية، ما يحدّ من فعالية أنظمة الردع التقليدية.

العبء الجغرافي الذي تواجهه القوات الأمريكية العاملة بعيدًا عن عمقها الوطني، مقابل قرب الصين من مسرح العمليات المحتمل.

هذه العوامل مجتمعة تجعل من فكرة “الحسم العسكري السريع” خيارًا غير واقعي، وتفتح الباب أمام سيناريوهات استنزاف قد تكون كلفتها السياسية والاقتصادية أعلى من أي مكاسب محتملة.

الاستراتيجية الصينية… من مجاراة التفوق إلى كسره

لا تقوم المقاربة الصينية على فرضية هزيمة الولايات المتحدة عبر مواجهة تقليدية شاملة، بل على تقويض عناصر تفوقها الأساسية. ويتجلى ذلك في تركيز بكين على:

أنظمة منع الوصول والسيطرة الإقليمية

الحرب السيبرانية والتشويش الإلكتروني

الدمج بين القدرات المدنية والعسكرية

توظيف العمق الصناعي والاقتصادي كجزء من القوة الشاملة للدولة

يمثّل هذا النهج انتقالًا من منطق “القوة الصلبة” إلى منطق “القوة الذكية المركّبة”، حيث لا يكون الهدف الانتصار العسكري الكلاسيكي، بل منع الخصم من تحقيق أهدافه السياسية.

معنى الهزيمة المحتملة في بعدها السياسي

الهزيمة التي تحذّر منها التقديرات الأمريكية لا تعني انهيارًا عسكريًا شاملًا، بل فقدان القدرة على فرض الإرادة السياسية. وهذا التحول يحمل دلالات خطيرة، لأن الردع لا يقوم على القوة الفعلية فقط، بل على صورة هذه القوة في أذهان الخصوم والحلفاء.

ومن أبرز التداعيات المحتملة:

اهتزاز ثقة الحلفاء الإقليميين بالمظلة الأمنية الأمريكية

إعادة حسابات الدول المتوسطة في خياراتها الاستراتيجية

تسريع الانتقال نحو نظام دولي متعدد الأقطاب

في هذا السياق، تصبح الصين فاعلًا مركزيًا في إعادة صياغة قواعد النظام الدولي، لا مجرد منافس عسكري تقليدي.

انعكاسات التحول على التحالفات والأمن العالمي

يفرض هذا الواقع الجديد مراجعة شاملة لطبيعة التحالفات العسكرية التقليدية. فالدول الحليفة للولايات المتحدة قد تجد نفسها أمام معادلة مختلفة: شريك قوي، لكنه لم يعد قادرًا على الحسم، في مقابل منافس صاعد يمتلك أدوات تعطيل فعالة وصبرًا استراتيجيًا طويل الأمد.

كما يسلّط هذا التحول الضوء على أن الصراع الدولي في المرحلة المقبلة لن يُحسم عبر المواجهات المباشرة فقط، بل عبر:

سباق التكنولوجيا المتقدمة

السيطرة على سلاسل الإمداد الحيوية

النفوذ الاقتصادي والسياسي طويل الأمد

استشراف مسار الصراع الأمريكي–الصيني

تشير المعطيات الراهنة إلى أن التنافس بين واشنطن وبكين سيتخذ طابعًا تراكميًا طويل الأمد، يتوزع بين:

تنافس استراتيجي شامل

صراعات نفوذ غير مباشرة

مواجهات محدودة ومحسوبة بدقة

وهو ما يقلّل من احتمالية الحرب الشاملة، دون أن يلغي خطر الانزلاق غير المقصود إلى صدام أوسع.

يكشف القلق المتزايد داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية عن لحظة مفصلية في التفكير الاستراتيجي العالمي، لحظة يُعاد فيها تعريف مفهوم التفوق ذاته. فالقوة في النظام الدولي المعاصر لم تعد حكرًا على من يمتلك أكبر ترسانة، بل على من يحسن إدارة موارده، وتكييف أدواته، واستيعاب التحولات قبل أن تتحول إلى وقائع.

إن صعود الصين لا يمثّل مجرد تحدٍ عسكري للولايات المتحدة، بل مؤشرًا على نهاية مرحلة تاريخية وبداية أخرى، تتعدد فيها مراكز القوة، وتتغير فيها قواعد اللعبة الدولية. وبين هذين المسارين، يقف العالم أمام نظام دولي جديد لم تتضح ملامحه النهائية بعد، لكنه يتشكل بالفعل أمام أعين الجميع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى