صراع الأجيال ليس ظاهرة جديدة، بل هو امتداد طبيعي لاختلاف الزمن، والبيئة، والمعايير. لكننا نعيش اليوم نسخة متقدمة من هذا الصراع، أكثر شراسة وأوسع فجوة، نتيجة التسارع التكنولوجي، والتحولات الاجتماعية، والانفجار المعرفي الذي غيّر شكل العالم خلال عقدين فقط. الأب الذي نشأ على الراديو والمذياع، يُنجب ابنًا يعيش في عالم الذكاء الاصطناعي والمحتوى الرقمي الفوري. وبين الجيلين، مسافة فكرية ووجدانية تتسع كل يوم.

الآباء، في كثير من الأحيان، ينظرون إلى التغيرات الحديثة بعين الريبة والرفض. يرون في التربية الحديثة تهاونًا، وفي الحرية انحلالًا، وفي التقنية خطرًا على الأخلاق والقيم. أما الأبناء، فينظرون إلى مواقف آبائهم بوصفها رجعية، لا تواكب العصر، ولا تفهم آليات الواقع الجديد. وهنا تتجلى الأزمة: غياب الفهم المتبادل.

فهل الآباء على صواب؟ أم أن الأبناء هم الأوعى بمتطلبات الحاضر؟
في الحقيقة، لا الصواب حكرٌ على جيل، ولا الخطأ قدرٌ لجيل آخر. الآباء يملكون من التجربة والخبرة ما يجعلهم مرجعًا مهمًّا، لكنهم أحيانًا يفتقرون للمرونة في قراءة الواقع المتغير. الأبناء يملكون الشغف، والقدرة على التكيف، لكنهم أحيانًا يفتقرون إلى عمق الرؤية والقدرة على التقدير.

من أبرز جذور الصراع، فارق التفكير الناتج عن فارق الزمن. الجيل القديم تشكّل في بيئة ضاغطة، تعلّم فيها أن الخطأ ثمنه كبير، وأن الحياة لا تُجرب كثيرًا. أما الجيل الجديد، فقد نشأ في بيئة مفتوحة، تشجع التجربة، وتعتبر الفشل جزءًا من النجاح. لذلك، يعتقد الآباء أن الحماية تعني التحكم، ويعتقد الأبناء أن الحماية تعني الثقة.

السؤال المحوري هنا: هل التطور سبب فساد الأبناء؟
البعض يجيب بنعم، مستندًا إلى انتشار السلوكيات السلبية، والتفكك الأسري، وتراجع الالتزام. لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا. فالتطور بذاته لا يفسد، إنما غياب التوازن في التعامل معه هو الخطر الحقيقي. الآباء الذين لم يتعلّموا كيف يوجهون أبناءهم في بيئة جديدة، والأبناء الذين لم يتلقوا مناعة فكرية تقيهم من الانحراف، كلاهما مسؤول.

وهناك سؤال آخر لا يقل أهمية: لماذا لا يتعلم الأبناء من أخطاء آبائهم؟
ربما لأن الآباء لا يسردون أخطاءهم بصراحة، أو لأنهم يقدّمونها بنبرة تعالٍ، لا بتواضع التجربة. وربما لأن الأبناء، في لحظة طيش أو غرور، يظنون أنهم أذكى من أن يقعوا في ذات الحفرة. لكن الواقع يؤكد أن التاريخ يعيد نفسه، وأن كل جيل يكرر ذات الأخطاء، ولكن بوسائل جديدة.

من وحي واقعنا، تظهر مواقف كثيرة تؤكد هذه الفجوة. أب يرفض أن يدرس ابنه تخصصًا يحبه لأنه لا يراه “مضمونًا”. وأم ترى أن ابنتها “تتمرد” لأنها ترفض الزواج التقليدي. وأبناء يغلقون الأبواب على أنفسهم لأنهم يشعرون بأن آباءهم لا يفهمونهم ولا يحترمون اختياراتهم.

فما الحل؟

الحل يبدأ من الإنصات الحقيقي. لا يكفي أن يسمع الأب لابنه، بل يجب أن يحاول فهمه، دون إطلاق الأحكام المسبقة. ولا يكفي أن يطالب الابن بحرية القرار، دون أن يستفيد من دروس من سبقوه. الحوار المفتوح، القائم على الاحترام لا الإملاء، هو الجسر الوحيد بين الجيلين.

نحتاج إلى آباء يواكبون، لا يُقيدون، ويستوعبون لا يُقصون. ونحتاج إلى أبناء يُقدّرون من سبقهم، لا يتعالون عليهم. نحتاج إلى تربية لا تنغلق على الماضي، ولا تذوب في الحاضر، بل تصنع توازنًا يحفظ القيم ويحتضن المتغير.

فصراع الأجيال، إن تُرك دون وعي، سيظل يتكرر بلا نهاية. أما إن أدرك كل طرف دوره ومسؤوليته، فسيصبح الاختلاف أداة نضج، لا سببًا للشرخ. ويبقى السؤال مفتوحًا: هل نملك الشجاعة لنبدأ بالاستماع لا بالهجوم؟

ربما عندها فقط يتوقف هذا الصراع، أو يتحول إلى تفاهم الأجيال بدلًا من صراعها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *