أ.د.على أحمد جاد بدر

أستاذ العلوم السياسية

       عميد كلية الدراسات الأفروأوروبية العليا

يُعدّ الدين الذي جاء من عند الله تعالى سواء في رسالاته السماوية أو في كتبه المقدسة مرجعًا إلهيًا مطلقًا، يحمل في جوهره الهداية والعدل والرحمة، ويهدف إلى تقويم الإنسان وبناء مجتمع يقوم على القيم العليا ، لكن حين ينتقل هذا الدين من مصدره الإلهي إلى ساحة التلقي والفهم البشري، فإنه يصبح عرضة للتأويلات، وقد تختلف هذه التأويلات بحسب الأفراد أو الثقافات أو الأهواء أو الظروف التاريخية، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تحولات جذرية في طبيعة الدين كما يُمارس على أرض الواقع.

والفرق الجوهري بين الدين كما أنزله الله والفهم البشري للدين، يكمن في طبيعة المصدر ، فالدين الإلهي معصوم وكامل، بينما الفهم البشري قابل للخطأ والنقص، ويُبنى على خلفيات معرفية وثقافية قد تكون محدودة أو متحيزة ، وهذا الفهم البشري عندما يُقدَّم على أنه الدين نفسه قد يؤدي إلى تشويه صورة الدين، وإلى ممارسات اجتماعية وسلوكيات لا تعكس روح النصوص المقدسة.

وقد شهد التاريخ أمثلة عديدة على هذا الانحراف بين الوحي والفهم، حيث استُخدم الدين لتبرير الاستبداد السياسي، أو التمييز الاجتماعي، أو قمع المرأة، أو محاربة العلم، بينما الدين نفسه في جوهره يعارض هذه الظواهر ، ويحض على كرامة الإنسان والعدل والمساواة ، وحين يصبح فهمنا البشري مرجعية مقدسة ونتعامل معه بوصفه الدين ذاته، نكون قد استبدلنا الوحي بالتأويل، والمطلق بالنسبي، والمعصوم بالقابل للخطأ ، وهذا الخلل في الفصل بين النص الإلهي وتأويله البشري يُحدث آثارًا عميقة على المجتمع ، إذ تتشكل نظم تعليمية، وتشريعات، وأنماط ثقافية قائمة على فهم ضيق أو منحرف للدين، مما يؤدي إلى انقسامات داخل المجتمع، وانتشار الجهل، وتأجيج الصراعات الطائفية، وإضعاف روح التجديد والاجتهاد ، كما يُمكن أن يتحول الدين في هذه الحالة إلى أداة للهيمنة، لا وسيلة للتحرير، وإلى عامل للتفرقة بدلًا من أن يكون عاملًا للوحدة.

من هنا تأتي ضرورة إعادة التمييز بين ما هو وحي وما هو تأويل، بين النص المقدس والفهم البشري، وبين الدين كمنهج إلهي شامل، وتفسيره الإنساني الذي يتطلب دائمًا مراجعة ونقدًا وتجديدًا ، وإن إخلاصنا للدين يبدأ من وعينا بأنه ليس ملكًا لأحد، ولا يُختزل في فهم واحد، بل هو رسالة مفتوحة لكل العقول والقلوب، تدعو إلى التفكر والاجتهاد والعدل والرحمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *