اخبار العراق
أخر الأخبار

إعادة كتابة التاريخ: حين يحكم القائد بعين الزمن لا بردّة فعل اللحظة

الأستاذ الدكتور قيس عبد العزيز الدوري
أستاذ التاريخ الإسلامي –تاريخ الخليج العربي

ليست القيادة العظيمة هي التي تُقاس بسرعة القرار، بل بعمق الرؤية. فثمّة فرق جوهري بين قائد يُدير اللحظة، وقائد يحكم بعين الزمن. الأول أسير ردود الأفعال، والثاني صانع مسارات. ومن هنا، فإن إعادة كتابة التاريخ لا تُعد ترفًا فكريًا أو ترفًا أكاديميًا، بل تمثّل في جوهرها فعلًا سياديًا، يعكس وعي القيادة بسنن الأمم، ودورات الحضارة، وحدود القوة، ومعنى الاستمرارية. فالدولة التي لا تراجع تاريخها، تكرّر أخطاءه، والدولة التي لا تملك سرديتها، تُدار بروايات غيرها.
التاريخ ليس سجلًا لما وقع فقط، بل علم لفهم لماذا وقع، وكيف تشكّل، وإلى أين قاد. وكل أمة تترك تاريخها يُكتب بعيون الآخرين، ستجد نفسها لاحقًا تعيش داخل صورة لا تشبهها، وتُحاكم بمعايير لم تصنعها. ومن هنا، فإن إعادة كتابة التاريخ تعني تحرير الوعي لا تزوير الوقائع، وتعني النقد المنهجي لا الهروب من الحقيقة، وتعني الانتقال من موقع التلقي إلى موقع الإنتاج المعرفي.
لقد أدرك بعض القادة، في الشرق والغرب، أن أخطر أنواع الهزيمة ليست العسكرية ولا الاقتصادية، بل الهزيمة السردية؛ أي أن تُختزل الأمة في رواية واحدة، أو تُحبس في لحظة انكسار، أو يُعاد تعريفها من خارج سياقها الحضاري. لذلك، لم يكن مستغربًا أن نجد قادة حملوا تكوينًا تاريخيًا أو وعيًا عميقًا بالتاريخ، انعكس مباشرة على طريقة إدارتهم للدولة.
ففي بريطانيا
كان غوردون براون، رئيس الوزراء الأسبق، يحمل دكتوراه في التاريخ، وقد تعامل مع الأزمات الاقتصادية بوصفها حلقات متكررة في تاريخ المجتمعات، لا أرقامًا معزولة.
وفي الولايات المتحدة
كان وودرو ويلسون أستاذ تاريخ قبل أن يكون رئيسًا، فحمل إلى الحكم فهمًا عميقًا لدورات صعود الدول وسقوطها، وسعى إلى إعادة تشكيل النظام الدولي بعقل تاريخي لا بردّة فعل آنية.
وفي العالم العربي
تتجلّى التجربة الأكثر وضوحًا في الشارقة، حيث يحكم الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، المؤرخ المتخصص في تاريخ الخليج العربي. وقد انعكس تكوينه العلمي على إدارته للإمارة، فكانت الثقافة في صدارة المشروع، والهوية في قلب التخطيط، والإنسان قبل العمران. فالشارقة لم تُدار كمشروع اقتصادي فقط، بل كنص تاريخي حيّ، تُراعى فيه الرمزية، والاستمرارية، والذاكرة.
وفي البحرين
يبرز ولي العهد الأمير سلمان بن حمد آل خليفة بوصفه نموذجًا لقيادة ترى في التاريخ الإسلامي والخليجي عنصر توازن واستقرار، لا مادة انقسام، حيث ينعكس الوعي التاريخي في خطاب سياسي يميل إلى التدرج وإدارة التنوع وربط الحاضر بجذوره العميقة.
أما في التجربة القطرية
فإن الحديث عن إعادة كتابة التاريخ لا يمكن فصله عن الدور التاريخي للأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، الذي فهم مبكرًا أن الدولة الحديثة لا تُبنى بالقوة وحدها، بل بالمعرفة، وباحترام العقل، وبخلق بيئة تسمح للتاريخ أن يُكتب من جديد علميًا لا دعائيًا. ففي عهده، لم تُفرض رواية رسمية، ولم يُغلق باب البحث، بل جرى الاستثمار في التعليم العالي، واستقطاب الجامعات العالمية، ودعم مراكز الأبحاث، وحماية الحرية الأكاديمية، وفتح النقاش التاريخي على مصراعيه. وهكذا تحولت قطر إلى فضاء معرفي تُناقَش فيه قضايا التاريخ العربي والإسلامي والخليجي بأدوات العصر، لا بعقلية التبرير أو الخصومة.
ويُسجَّل .
من باب الإنصاف التاريخي، أن صدام حسين رحمه الله كان من أوائل القادة العرب الذين نبهوا مبكرًا إلى ضرورة إعادة كتابة التاريخ العربي والإسلامي من منظور الأمة، إدراكًا منه أن الصراع مع القوى الكبرى لم يكن عسكريًا فقط، بل معرفيًا وسرديًا. غير أن هذه الدعوة بقيت في إطار التنبيه السياسي، ولم تتحول، بحكم الظروف، إلى مشروع أكاديمي مؤسسي متكامل، وهو ما يوضح الفارق بين من يُطلق الفكرة، ومن يُحوّلها إلى بيئة حضارية مستدامة.
إن إعادة كتابة التاريخ، في معناها العميق، لا تنفصل عن أخلاق القيادة. فالقائد الذي يحترم التاريخ، يحترم من يحملونه. ومن هنا، يبرز معيار نادر يميّز القائد المختلف: كيفية تعامله مع أهل الفكر والعلم. فالتاريخ لا يخلّد الخطب بقدر ما يخلّد المواقف، ولا يحفظ الشعارات بقدر ما يحفظ السلوك. إن إكرام المفكر ليس منّة، بل شراكة، واستضافة المؤرخ ليست تفضّلًا، بل اعتراف بدوره في حراسة الذاكرة. والكرامة، إذا مُنحت، لا تُسترد، والضيافة، إذا قُدّمت، لا تُلغى، لأن الفكر لا يُدار بعقلية الملف المؤقت، بل بعقلية المشروع المستمر.
ويسجّل التاريخ، لا بلغة الشكوى بل بلغة العبرة، أن الفرق شاسع بين قائد يرى في المفكر قيمة مضافة للدولة، وقائد آخر يراه عبئًا إداريًا قابلًا للإلغاء. فالأول يبني ذاكرة وطن، والثاني يراكم صمتًا سيُكتب يومًا ما. والمؤرخ، إذا انقطعت به السبل، لا يضيع، بل يؤجّل الكتابة حتى تتحول التجربة إلى شهادة، لأن التاريخ لا يُكتب فورًا، لكنه لا يُنسى أبدًا.
وهنا، يبرز واجب أخلاقي للمؤرخ تجاه الأجيال القادمة: أن يكتب بميزان العدل لا بميزان الامتنان، وأن يكون وفيًّا للقيم لا للأشخاص. فمن احترم الفكر وأهله، سيجده التاريخ حاضرًا بإنصاف، ومن جعلهم على هامش الكرامة، سيجده التاريخ حاضرًا أيضًا، ولكن بصيغة أخرى.
إن القائد الذي يحكم بعين الزمن لا بردّة فعل اللحظة، هو القائد الذي يفهم أن الدولة ليست قرارًا آنيًا، بل سردية ممتدة، وأن المستقبل لا يُدار بلا ذاكرة، وأن القوة الحقيقية تكمن في الوعي. فالتاريخ لا يُعاد بالقوة، ولا يُكتب بالأوامر، بل يُبنى حين تجتمع الرؤية، والمؤسسة، والكرامة. وتلك هي المعادلة التي تصنع القادة الذين لا يمرّون في التاريخ، بل يكتبونه .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى